لم يكن اجتماعنا نحن السوريين في برلين من أجل التباحث حول "الحياة" والوقوف ضد "الموت" سرياً، أو أن هناك ما نخجل منه ونود كتمانه. لكن البعض، ممن صارت الحرب مهنتهم، ولا يريدون التحول لضباط سلام، في وطني الجريح، يود وضع العثرات في طريق كل محاولة تهدف لأن نصير نحن ضباط السلام. كما أن اللقاء لم يكن لقاء طوائف، لا عنواناً ومضموناً، بل هو لقاء فعاليات وطنية سورية، لها حيثية وقيمة في مجتمعاتها، من كل أنحاء سوريا.

ولأن بعض الصحف لازالت تحب أن تكتب العناوين المبهرة لكي تحقق الاندهاش عند القراء، الذين غالبا ما يتوقفوا عند العنوان دون القراءة التفصيلية للمقال، فلقد تم عنونة لقائنا في برلين في إحدى الصحف بأنه لقاء سري حصل بين العلويين والسنة من أجل السلام في سورية!

ولقد وقفت شخصيا قبل شهرين في لقاء من لقاءات برلين وقلت لجميع الحاضرين: "لست هنا بوصفي علوياً بل كأكاديمي سوري، وإن أي تفكير يبدأ بجمع الطوائف سيؤدي في نهاية المطاف لخلق كيان سوري مشوه على أساس طائفي يماثل المشهدين اللبناني أو العراقي". ولقد لاقى كلامي استحسان الجميع.

في عام 1925 عندما كانت سورية تحت الانتداب الفرنسي، أرسل المفوض السامي الفرنسي للشيخ الكبير صالح العلي رسالة يعلن فيها استعداده لإقامة دولة للعلويين في الساحل. وكان رفض الشيخ صالح مدوي وواضح، وردّ على العرض قائلاً: "عليك أن تعلم، أنني سأختار، أنا وكل أهل الساحل، المذهب السني إن حاولتم تفريقنا". وبالفعل، بإرادة هذا الرجل وإرادة عدد كبير من قيادي ثورة 1925 قام الكيان السوري المعروف الآن على أساس لا مذهبي.

نحن نناضل من أجل المواطنة، ومن أجل دولة مدنية تحترم العقائد وتقف على مسافة واحدة من جميع الأديان والمذاهب وتمد يدها لصنع النهضة والسلام وتخلق لشعبنا الظروف التي تجعله قادرا على تحويل عبقريته إلى نهضة كبرى.

عندما وصلت الى برلين واستقبلني الزملاء المنظمون كان لي تصوري المسبق عن الاحترام والتهذيب وحب العمل الألماني. وفي الحقيقة هذا ما رأيته، فلقد قدم لنا مضيفونا بكل احترام كل امكانيات الحوار حتى أنهم قالوا وبكل صراحة: "سنخرج وندعكم تتكلمون لوحدكم". ولقد أدى كل هذا التعاون من قبلهم مع جميع المشاركين لخلق "مدونة العيش المشترك"، التي أحب أن أسميها أنا (مدونة الحياة)، وهي التي تتضمن إحدى عشر بنداً لا أرجو كمواطن سوري إلا تطبيقها في الحال في وطني لكي يبدأ مشوار الحل الاجتماعي، ثم السياسي.

فمن وحدة الأرض السورية، إلى المكاشفة، إلى مبدأ لا غالب ولا مغلوب، وعدم الثأر، ووحدة الهوية مع تنوعها الداخلي، كل هذه المبادئ التي صنعناها في برلين وخرجت إلى النور لكي تشكل ما يشبه حوار "الآباء الأولين" الفوق دستوري، خاصة وأن ما تحمله لنا الأيام القادمة هو انعقاد اللجنة الدستورية العليا في جنيف من أجل البدء بوضع دستور جديد للبلاد. دستور سيؤسس على مبادئ المواطنة والحرية والمساواة واللاطائفية. فأنا كسوري أشعر أنني مسيحي اذا ظلم المسيحيون، وسني اذا ظلم السنة، وإسماعيلي اذا ظلم الإسماعيليون، وعلوي ودرزي إذا ظلم هؤلاء. أي أنني خلقت للدفاع عن قضية المظلومين، والمظلومون اليوم هم كل السوريين بلا استثناء لأنهم فقدوا الأمان وخسروا عشرات آلاف الضحايا وعانوا من القهر والاستبداد والإرهاب المتطرف. إن السوري اليوم لا يقف في وجه ذئب واحد. إنه يدعو الأمم المتحضرة "كالأمة الألمانية" للوقوف معه، لأنه يصارع عددا من الذئاب في وقت واحد. لهذا فإنني أرسل التحية إلى برلين التي احتضنت اجتماعات الحوار، التي خرجت منها هذه المدونة المحترمة "مدونة(الحياة)".

الدكتور محمد عبد الله الأحمد ©

2020.12.0808.12.2020