بجمالية اسمها ودلالاته وملامسته لمشاعر السوريين، تختصر المدونة عملاً كبيراً وجهوداً بذلت لعدة أعوام، تمثلت بعشرات لقاءات الحوار، في عدة مدن أوربية، بين شخصيات اعتبارية مجتمعية سورية، ومن كل ألوان الطيف السوري، تجمعهم قواسم مشتركة، أهمها عدم انخراطهم بالصراع وتحررهم من ثنائية "النظام والمعارضة" وتحسسهم المخاطر الجدية التي يشكلها استمرار الصراع في وعلى سوريا.
التقوا تناقشوا اختلفوا تحاوروا، دون تدخل أو ضغوط، حيث اقتصر دور البلدان المضيفة على تأمين البيئة الآمنة والمحايدة للحوار وهذا يسجل لها وتشكر عليه.
وفي النهاية اتفقوا وأصدروا الوثيقة، تحت عنوان: "مدونة السلوك لعيش سوري مشترك"
وثيقة من مقدمة مختصرة بأحد عشر بنداً، صيغت بلغةٍ قانونيةٍ احترافيةٍ واضحةٍ، تمثلُ فعلاً ما يمكن اعتباره قواسم مشتركة لأكثرية السوريين وتؤسس لمناخ تصالحي حقيقي.
فالمقدمة المختصرة والغنية جداً، تؤكدُ أن المدونةَ هي وثيقة تلاقي ينطلق منها السوريون إلى صياغة مشروعهم الوطني الجديد متحررين من معضلات الماضي والحاضر التي تكبلهم.
أما البنود الأحد عشر فيمكن القول إنها استطاعت، ولحدٍّ كبير أن تقول: هذا ما يجمع عليه السوريون ويشكل حالة توافقية متوازنه ومقبولة، ومن الصعب على أحد أن يرفضها بشكل صريح، إلا إذا كان ينتمي إلى جهات أو أفكار إقصائية متطرفة. ولا أعتقد أن المدونة بالأساس موجهة إلى هؤلاء، فمن التأكيد على وحدة الأراضي السورية، وهو مبدأ أكدت عليه كل اللقاءات والاجتماعات التي عقدت بعد صدور المدونة، إلى ترسيخ مبدأ لا غالب ولا مغلوب ومبدأ المحاسبة لا الثأر وجبر الضرر وتحميل أطراف الصراع مسؤولية مشتركة عمّا حدث، وإن كان بنسب متفاوتة، ومتابعة الملف الإنساني؛ كلها تساعد على اشاعة مناخ تصالحي وعلى ترسيخ ثقافة السلام وتعزيز قيم المواطنة. كما أن بقية البنود متل الإقرار بالهوية التنوعية للمجتمع السوري وجماعية التراث وعدم تسييس الانتماء، كلها بنود تؤكد حقيقة الوحدة السورية وضمانها من خلال التنوع الذي يغنيها.
لكن السبق الأهم بنظري، أو الاستشراف الملفت فعلا، هو المراهنة على حتميّة كسر الثنائية المدمرة التي حكمت سوريا طوال السنوات العشر الأخيرة، ثنائية السلطة والمعارضة. إذ راهنت المدونة عبر القائمين عليها، بأنها إذا أخذت حقها بالانتشار والحضور، ستساهم في بلورة تيار شعبي وطني متحرر من تلك الثنائية يضم أغلبية السوريين الغائبة، او المغيبة قسراً، تستطيع أن تفرض إيقاعها الخاص على مسار الأحداث وتفرض الحل الذي ينسجم مع مصالح الشعب السوري.
لقد حققت المدونة والحوارات المطولة التي أوصلت إليها وأنتجتها، أسبقيات وخطوات متقدمة في المشهد السوري. فهي أول حوار مجتمعي سوري صرف ليس للدول مشاركة أو دور مقرر فيه. وهو حوار ضم شخصيات من كل المكونات السورية من داخل سوريا وخارجها. والرسالة المهمة الأخرى التى وجهتها المدونة إلى الأطراف كافة وإلى المجتمع الدولي هي، أن السوريين وإن عاشوا في ظل غياب شبه كامل لثقافة الحوار، إلا أنهم قادرين أن يتحاوروا وأن ينجحوا في الوصول إلى أهداف ومبادئ توحدهم، في حال توفر لهم المناخ المناسب والظروف الموضوعية المناسبة. بذلك تكون قد أجهضت كل محاولات اليأس والأحباط التي روجتها أطراف داخلية وخارجية بأن من المستحيل حصول إتفاق بين السوريين أو نجاح حوار بينهم.
لأنها تهدف في جوهر عملها ودورها إلى إنهاء الصراع على الأرض بوجهه العنفي المسلح ونقله إلى حالة حضارية من صراع الأفكار والرؤى، وبالتالي شكلت النقيض لهم واعتبروها خطراً وجوديّاً عليهم. ولا شك أن المدونة ومنذ الإعلان عنها قد تعرضت لتحديات واشكالات متعددة، وكان التحدي الأول هو الهجمات الفورية التي تعرضت لها من أطراف الصراع، وهذا بتقديري، طبيعي ومتوقع، وقد لعبت بعض وسائل الإعلام دوراً بهذه الهجمات عندما وضعت المدونة تحت عناوين طائفية هي أبعد ماتكون عنها.
أما التحدي الأخر فكان سؤال كبير وهام وجدت المدونة والمشاركين فيها أنفسهم أمامه وهو: ماذا بعد؟ هل نعتبر أننا أنجزنا مهمتنا وقدمنا للسوريين وثيقة ومبادئ يمكن أن تشكل أساس أو ركيزة يمكن البناء عليها؟ أو أننا نعتبر صدور المدونة أساس لنا نرتكز عليه للانطلاق إلى خطوة تالية؟ فلا شك أن الصدى الطيب الذي تركته المدونة والتفاعل والاهتمام الواسع الذي لاقته في الأوساط المحلية والأجنبية، والشعور بضرورة استكمال المشروع والإنتقال به إلى خطوة متقدمة أخرى، وعدم تركه يتحول إلى فرصة ضائعة، قد حسم الخيار ودفع المدونة والقائمين فيها للانتقال إلى مرحلة مأسسة العمل. وهذا ما تُرجِم بمجلس المدونة الذي باشر عمله في ظروف صعبة ومعقدة فرضتها الإجراءات المرافقة لجائحة كورونا.
لكن التحدي الأبرز الذي تواجهه المدونة هو عدم تحقيق أي تقدم يذكر في العملية السياسية، فصحيح أن المدونة بما تركته وتتركه من تأثيرات إيجابية على المجتمع السوري، قد تساعد على إنضاج ظروف الحل السياسي، لكن دورها الحقيقي سيتجلى خلال تطبيق الحل وبعده. بالمساهمة (في الوصول إلى ناظم اجتماعي وسياسي للدولة السورية القادمة وتأصيلاً لعقد اجتماعي سوري جديد مبني على المواطنة) كما ورد في مقدمتها.
لكن ورغم ذلك، عقد عدد من الإجتماعات وأصدر عدد من البيانات التي واكبت أحداث وتحولات مهمة في سوريا والمنطقة، وعُمِلَ على نشر المدونة على نطاق واسع.
لا شك أن المدونة فرضت حضورها بشكل جيد، من خلال تواصل جهود مجلسها للتعريف بمبادئها وتفعيلها على الأرض، وهناك اهتمام متزايد فيها في مختلف الأوساط، نتيجة للجهود الكبيرة في التواصل مع المجتمع الدولي التي يقوم بها منظّمو جلسات الحوار، ويعتبر نجاحهم -هم وعدد من المشاركين بالمدونة، بإيصال أفكار المدونة إلى فريق الامم المتحدة المشرف على عمل اللجنة الدستورية وإلى مختلف الوفود المشاركة- إنجازا هاما في طريق ترجمة عمل المدونة بخطوات عملية لتفعيل دورها.
إن المدونة ومبادئها أصبحت حقيقة لا يمكن تجاوزها في المسارات القادمة للحل ولبناء سوريا الجديدة، ولا بد من توجيه التحية والشكر لكل المشاركين فيها، وخاصة لعرابيها الذين تحمّلوا، ولا زالوا، العبء الاكبر في كل ما حققته.
أ. سلمان شبيب. رئيس الهيئة التأسيسية لحزب سوريا أولاً