مقالة رأي

2021.11.30

نحو عقدٍ سوريٍ جديد

في العصور القديمة كانت توجد مسارح للمصارعة والقتال حتى الموت. حيث كان يسارع الجمهور لحضور تلك العروض ويحرض أحد المصارِعَين على قتل الآخر، بل لا تكون العروض حماسية إذا لم تكن الدماء تسيل.

في زمننا هذا، وعندما نقرأ في كتب التاريخ عن هذه العروض، أو حتى نشاهد فيلماً يعرض هكذا مشاهد، نستاء كثيراً ونقول: كم كانت هذه الشعوب متخلفة وهمجية ووحشية. ما يحدث في سورية اليوم يشبه ما حدث في تلك المسارح من همجية ووحشية، بل قد يفوقها بكثير. إذ أصبح السوري يفرح لمقتل سوري آخر، لمجرد أن يكون مختلفا عنه، بالدين، بالمذهب أو بالانتماء السياسي أو المناطقي، أو حتى بالرأي.

كيف نسير نحو سورية الجديدة؟

لم يذكر التاريخ أن حرباً أهلية أو داخلية – حتى نتجنب هنا النقاش حول ماهية الحرب في سوريا - انتهت بزوال أحد الفريقين المتحاربين من الوجود. فتلك الحروب كلها تقريبا كانت تنتهي على طاولة حوار تجمع الفرقاء، وتصل بهم إلى تسويات أو تفرض شروط من أحد الطرفين. ولكن في الحالة السورية، من هم المتحاربون؟ وما هي التسويات والشروط؟

بداية فإنه يجب التنويه على أن المتحاربين هم السوريون ذاتهم. هؤلاء اختلفوا في التسمية، إذ أنه - وبعيداً عن سجال بدايات الحرب - ثمة من يقول انها ثورة ضد النظام والديكتاتورية والظلم والطغيان، بينما فريق آخر يسميها المؤامرة من قِوى خارجية عبر أيادٍ داخلية، والبعض الآخر يسميها انتفاضة شعبية، وٱخرون حراكاً. إلا أن المسميات كلها  لم تعد تعني شيئاً اليوم. فالمصطلح الحقيقي الذي وصلت اليه سورية اليوم هو مصطلح الكارثة، إضافة إلى تواجد أربعة جيوش أجنبية على الأرض السورية، وهي أمريكا وروسيا وتركيا وايران، إضافة إلى اسرائيل التي تقصف من الجو. فعن أي ثورة يمكننا أن نتحدث! و أية مؤامرة يمكنها أن تقنعنا في ظل بلد تناهشته دول العالم ومخابراتها!

من ليس معنا فهو ضدنا. هكذا أصبح حال المواطن السوري، بينما كل فريق ينظر للدول الأجنبية الموجودة على الأرض السورية بأنها دول حليفة، متناسين بأن الدول ليست جمعيات خيرية. إذ أن تلك الدول لم تتدخل بالملف السوري لمصلحة السوريين، بل كل دولة دخلت تنفيذاً لمصالحها الخاصة، وساهمت بجعل سوريا ساحة صراع لها مع الآخرين، مما جعل سوريا تتحولت بالتالي من لاعب إقليمي، الى ملعب للجميع.

أما حال أبنائها اليوم، فهم مشتتون بين ملايين مهجرين في الخارج كلاجئين، وملايين مهجرين في الداخل كنازحين، والباقي منهم يقتلهم الفقر في ظل انهيار اقتصادي تتسارع وتيرته كل يوم، وينذر بفقدان متطلبات الحياة اليومية والأساسية كحدٍّ أدنى للبقاء.

بعد أعوامٍ عِدّة من الدمار والقتل والتهجير والتكفير والتخوين، وبعد أن عبث الغرباء بهذا البلد، وانقسم الناس فيما بينهم، وتعمق الشرخ الاجتماعي والمذهبي وأيضا الطبقي تبعاً للاستقطاب السياسي الذي غذى الصراع السوري - السوري خلال العقد الأخير، نرى بأن المشاهد  في حيثياتها لا تنفصل عن بعضها البعض. فالمؤشرات السلبية والدلائل تنبئ بكارثة انسانية لم يشهد التاريخ الحديث مثلها، سواء في الشتات السوري تبعاً للظروف الإنسانية السيئة في المخيمات في دول اللجوء، أو بناءاً على الوضع المأساوي لمن بقي في الداخل السوري بين فكي الموت جوعاً، أو الاستبداد القهري، منتظرين حلاً سياسياً من الدول صاحبة القرار. ولكن لا حل في المنظور القريب.

وهنا لابد من السؤال: ما الذي جناه السوريون خلال عشرة أعوام من عمر الكارثة السورية، من الذي انتصر، ومن المهزوم؟

وبإجابة بسيطة لا أحد، فقط هو السوري الذي يخسر. إذ أن السوريون خسروا وطناً بات الأغراب يتنازعونه ويتقاسمون ثرواته. وهذا ما يعني بأن الحديث سيبقى عن طول الأزمة، واستمرار الكارثة. والأشدّ خطورة من كل ذلك يبقى الحديث عن مشاريع التقسيم في المنطقة، التي لم يعد الحديث عنها يجري تحت الطاولة فالمؤتمرات الطائفية تجري هنا وهناك لبحث مصير تلك الطوائف والقوميات، تمهيداً لإطلاق الدويلات الدينية أو القومية في خطوة لاحقة.

والأشدّ خطورة هو حال السوريين الذين لم يعد يعنيهم ما يُرسَم لهم، فمطالبهم اليوم تنحصر بمحاربة الجوع، أو الهروب منه إلى أي مكان في العالم، وكأنهم أصبحوا جاهزين لأي مشروع يُفرَض عليهم.

فهل حان الوقت إذاً لعقد سوري جديد؟

هل بات لزاماً علينا واجب النهوض والصحوة، وكتابة عقد اجتماعي جديد، يكون فيه العمل السياسي مبنياً على المصلحة المشتركة لجميع السوريين؟ عقدٌ يعيد لهم أَلَقهم وفاعليتهم كسوريين حقيقيين كما عرفهم التاريخ، ويعترف بحقوق الجميع دون استثناء. فسورية بلد متنوع، والتراث السوري يشمل كافة الحضارات التي عاشت وتعاقبت ولا زالت تعيش على الأرض السورية، والحفاظ على إرث وجوهر ومظاهر كل هذه الحضارات بتعدديتها يُشكل واجباً يرتبط بصميم الهوية السورية. أما المساواة بين السوريين في الذات الإنسانية والكيان البشري والمراكز الحقوقية وضمان حرياتهم في المجالات كافة، فهي مسألة غير قابلة للمساومة. والتأكيد على مبدأ المواطنة، وبأن الجميع متساوون أمام القانون، ولهم جميعاً ذات الحقوق، وعليهم ذات الواجبات، مسألة تتعلق بصميم الدولة السورية المرجوة.

تلك مؤشرات يجب أن ننتبه لها كسوريين، لتكون مرجعاً وأساساً يُبنى عليه، وناظماً لأي مشروع سياسي يهدف إلى إنقاذ البلد. فعلينا كسوريين أن نبحث عن طريقة للعيش معاً، كما كنا في التاريخ السوري الأعمق والأقدم من جميع الأنظمة والحكّام. فسورية اليوم هي أحوج ما تكون إلى  خطاب عقلاني يردم الهوة التي خلقتها الحرب بين مكوناته، خطاب مدني علماني، يؤكد على الثوابت الوطنية السورية، تكون المواطنة فيه من حق كل السوريين. وهذا ليس بمستحيل.

من نحن

سوريا ١١ هي مدونة تستمد اسمها من البنود الاحد عشر في "مدونة سلوك لعيش سوري مشترك" التي تطرح أفكارًا من السوريين للسوريين، وتستقبل ما يراه السوريون مناسباً لإعادة إحياء دولتهم، بكل أبنائها و أديانها وقومياتها ولغاتها في وطن واحد، تناقش معهم ويتناقشون فيما بينهم على شكل نظام الحكم الذي يريدونه وفق إراداتهم واتفاقهم .

هذا الموقع هو محاولة لفتح قناة تواصل بين أبناء الشعب السوري والسوريين القائمين على "مدونة سلوك لعيش سوري مشترك" و "مجلس المدونة السورية"، لتبادل الأفكار ومناقشتها، مستلهمين من التاريخ البشري القديم والحديث، ومن تجارب الشعوب التي مرّت بأزمات وانتصرت على آلامها وأعادت إحياء أوطانها بتضامن مواطنيها وعزيمتهم، عبر الحفاظ على السلم الأهلي و التماسك المجتمعي .

نأمل ونعمل على أن تكون المدونة بداية الطريق نحو سورية الوطن الجامع.

OP-ED

2021.09.20

نحو حوار وطني سوري شامل

أكثر ما يسمعه المرء في هذه الأيام عندما يستطلع ما يجري حول الملف السوري يتمحور حول مؤتمرات السوريين خارج سوريا، التي عقدت أو قيد الانعقاد أو يجري التحضير لها. على أن ما يلفت النظر في هذا الإطار ليست واقعة تجمع السوريين وحوارهم، وإنما العناوين العريضة والمسميات التي يختارها القائمون على هذه اللقاءات للقاءاتهم. وهذا يعكس رغبة عارمة عند الجميع تتلخص بالحنين لأن يجلس أكبر عدد من السوريين مع بعضهم في مؤتمر وطني شامل يناقش الحالة السورية، ويحاول وضع أطر معينة لحلول لها مقبولية لدى الجميع أينما كانوا.

 

لا مجال للشك بأن هذه الرغبة ليست فقط مبررة ومشروعة، وإنما قد تكون ضرورة لا بد منها على طريق أي حل ممكن للأزمة السورية. إلا أن أي مؤتمر سوري مرجو يجب أن يتبلور كنتيجة لعملية حوار وطني شاملة، يشارك فيها سوريو الداخل والخارج بكامل أطيافهم الاجتماعية ومذاهبهم وانتمائاتهم الإثنية واتجاهاتهم السياسية. وهنا تكمن إحدى أهم المعضلات التي ترافق الأزمة السورية منذ بدايتها. هذه المعضلة تؤثر بشكل مباشر على أية محاولة إجراء حوار شامل بين السوريين، وتتلخص في جانبين:

 

  • الجانب الأول: الحساسية الخاصة الموجودة عند السوريين من جميع الأطراف بخصوص الحوارات التي يكون الحضور فيها قائما بشكل أو بآخر على تمثيل المجتمع السوري بتنوعاته الإثنية، الدينية والمذهبية. هذه الحساسية هي أمر موجود سواء كان تنوعات المجتمع السوري تشكل جزءا من حيثيات الحوار القائم، عندما يتم على سبيل المثال دعوة ممثلي بعض الإثنيات والأديان والطوائف للقاء قوى سياسية أو اجتماعية معينة. أو عندما تكون تلك التنوعات هي أساس الحوار من خلال عقد مؤتمر مثلاً بين ممثلي الاتجاهات المختلفة في المجتمع السورية، وبناء على صفتهم بالانتماء لهذا الاتجاه أو ذاك. أو حتى عندما لا يرتبط وجود التنوع بالتمثيل بأي قصد عام أو خاص، وإنما فقط بعفوية الاختيار وتجنب اللون الاجتماعي الواحد للقاء.

 

  • الجانب الثاني: الحساسية السياسية الموجودة لدى فرقاء النزاع ومن هم قريبون منهم في المواقف أو من يعرفون مواقفهم على أنها موازية لهذا الطرف أو ذاك، والمرتبطة بفكرة أن الآخر قد فقد شرعيته السياسية. فالسوريون الذين ينظرون إلى أنفسهم بأنهم يقفوا إلى جانب الدولة أو الحكومة السورية – أو ما يطلق عليه اسم النظام السوري – يرون السوريين المختلفين معهم في الرأي على أنهم حلفاء الإرهاب والجماعات الإسلامية والمصالح الخاصة لبعض دول المنطقة في سوريا. وعلى الطرف الآخر يصف السوريون أصحاب المواقف القريبة من المعارضة بأن ما يسمى بالنظام السوري وكل من يقف معه أو يقترب من مواقفه بصفات مختلفة منها الإجرام أو التستر على الإجرام أو العمالة لإيران.

 

تأثير هذين الجانبين على عملية الحوار يظهر في التوصيفات التي تطلق على حوارات السوريين من قِبل السوريين الآخرين وخصوصاً في العالم الافتراضي، والتي تتراوح في مجملها بين التكفير والتخوين بشكل أو بآخر. على جانب آخر فإنه من المهم هنا التنويه بأن طريقة التفكير هذه تتجاوز التوصيف المجرد وتؤثر بشكل مباشر على سير أية عملية حوار. وهذا يظهر بشكل واضح من خلال أن الكثير من عمليات الحوار الحالية بين السوريين لم تستطع تجاوز مرحلة تبادل الاتهامات أو توصيف ما حدث في سورية بعد 2011 أو الحديث عما يسمى مرحلة انتقالية في الوقت الذي لا يستطيع فيه أحد أن يعرف الإحداثيات القائمة على الواقع الموجود لأية عملية انتقال مزعومة. حتى الحوار داخل أروقة اللجنة الدستورية لم يخرج عن هذا الإطار حتى الآن.

 

على أن حوار السوريين بعد مرور أكثر من عشر سنوات على الأزمة – مع الأخذ بعين الاعتبار أن استخدام لفظة الأزمة بحد ذاته لتوصيف الحالة السورية هو مسألة إشكالية بين السوريين – وبناء على الظروف الحالية يجب أن يقوم على ثلاثة مبادئ أساسية:

 

  1. الرؤية المستقبلية: أي أن الحوار يجب ألا يناقش الماضي ويتغول في أسباب النزاع، وإنما يجب أن يتم تناول المستقبل بكامل أبعاده. يمكن على سبيل المثال طرح سؤال حول سوريا في عام 2050، ما هو شكلها؟ وكيف سيكون نظام الحكم؟ وما هي المعايير الاقتصادية والاجتماعية ممكنة التطبيق للحياة في هذا البلد؟

 

  1. برغماتية المواقف والنتائج: إن الحوار يجب أن يقوم على مفهوم العملية المفتوحة دون استخدام مفهوم الشرطية بخصوص ما سيتوصل إليه المرء من نتائج. ما تنضوي أيضا تحت هذا المبدأ هي مسألة واقعية وعقلانية النتائج. إذ لا يمكن أن يكون أساس الدخول في عملية الحوار هو الوصول إلى نتائج يعرف المرء مسبقا عدم إمكانية الوصول إليها لبعدها عن الواقع وعدم انسجامها مع الظروف الحالية المحيطة بالحالة السورية.

 

  1. صراحة تناول المواضيع المختلفة: يتمثل أهم عوامل نجاح الحوار في وضع كل المسائل على طاولة الحوار وتناولها بصراحة دون أي هاجس بسبب من يجلس على طاولة الحوار، أو من هو خارجها من الجمهور المتلقي.

 

مع الإقرار بأن الانطلاق بعملية حوار وطني سوري شامل تحمل هذه الخصائص هو مسألة صعبة التحقيق في الظروف الحالية، وخصوصاً أن هناك أسئلة حساسة مثلاً حول من يتحاور مع من؟ وأين سيتم الحوار؟ قد لا تجد في الوقت الحالي إجابة مرضية لمن لديهم رغبة في الحوار. على أن الحوار يبقى هو الطريق الوحيد لحل الأزمة السورية بعد فشل كل الحلول الأخرى، مع الاعتراف بأن الحوار في الحالة السورية ليس مجرد عملية تؤدي إلى نتائج، بل هو هدف في حد ذاته. فالجلوس على طاولة الحوار يحول التراشق بالرصاص والقذائف إلى تراشق بالكلمات، ليس فقط بين المتحاورين وإنما بين جمهورهم أيضاً. مع الوقت لا يبقى التراشق تراشق كلمات فقط، بل يتحول إلى تراشق حجج. تبادل الكلمة والحجة يؤدي في النهاية إلى نشوء طبقة من المتحاورين تقترب شيئاً فشيئاً من بعضها البعض، وتنشأ بينها جسور مبنية على العلاقات الشخصية التي قد تؤدي في النهاية إلى الوصول إلى نتائج مشتركة تتقبلها مجتمعاتهم من السوريين على اختلاف انتماءاتهم وأماكن تواجدهم الجغرافي.

OP-ED

2021.08.16

القناعة بنسبية المفاهيم كأساس لأية فكرة لحل الأزمة السورية

لا معدى عن التأكيد بداية بأن أي حديث عن النسبية في أي مجال أو مقام هو حديث إشكالي يحمل بذور خلاف عقائدي. فالأخذ والرد، بشكل عام، يقوم على فكرة النظرية، أو التوصيف، أو الرأي، أو الفرضية وما يناقض هذه المفاهيم على طرف نقيض. أما النسبية بحرفيّتها وفحواها فتقوم على نفي وجود أو نفي أحادية وجود تلك المفاهيم. فالتمسك بالنسبية لا يعني محاولة دحض الحجج التي تقوم عليها النظرية، ولكن قبول فكرة تعدد النظريات، لابل أحياناً عدم القبول بوجود نظرية أو فرضية بالأصل. وهذا الموضوع هو أكثر تعقيداً عندما يتعلق الأمر بشأن سياسي أو اجتماعي أو ديني، أو عندما يرتبط بحقول البحث العلمي المتعلقة بالعلوم الإنسانية بشكل عام. فكل ف رد يعتقد بأنه على صواب والآخرين على خطأ عندما يرتبط الأمر بهذه المجالات، فالقناعة بالرأي الذاتي والمفهوم الشخصي هنا هي أساس التفكير ومحوره.

 

وإذا خصصنا الموضوع، فما يمكن الجزم به بخصوص المسألة السورية، بأن مجرد طرح مسألة النسبية غير مقبول في العديد من أوساط المجتمع السوري المعارض والموالي، إذا قبلنا بهذا التقسيم على سبيل المجاز هنا. وبما أن الحديث في هذا المقام حول النسبية، فإن ما تقوم عليه تكون فكرتها الأساسية المرتبطة بالمسألة السورية هي: تقبّل المعارض والموالي وحججهما. على أن هذا ليس غرضاً بحد ذاته، بل وسيلة للحث على نوع من التواصل بين المعسكرين ودعوة لكل مرء بالتفكير في نظريته وفرضيته بخصوص الأزمة السورية، من داخل الفرضية أو من خارجها. والنداء هنا ليس نداء لتغيير المواقف وإنما نداء لقبول نسبية الموقف الذاتي ونسبية الموقف الآخر. وحتى إذا لم يكن المرء قادراً على تقبل فكرة نسبية فرضيته وفرضية الآخر، فالمهم أن يتم تقبل نسبية أو جدلية خصائص الموقف أو أسسه، سواء كان الموقف الذاتي أو موقف الآخر.

 

لعل مدونة السلوك بمبادئها الإحدى عشر، وعمل مجلسها، يمثلان طريقة من طرق استخدام النسبية في إطار البحث عن توافقات معينة تصلح كقواعد اتفاقية للبدء في حل الأزمة السورية. فالنقاش حول المدونة انطلق من فكرة اختلاف آراء الأشخاص الجالسين على الطاولة وتباين مواقفهم وطروحاتهم والفرضيات التي يؤسسون عليها مواقفهم من الأزمة السورية. مما يجب الإشارة إليه في هذا المقام بأنه لم تتم أية محاولة في اجتماعات مجلس المدونة لتوحيد الآراء أو تقريبها، وإنما تم إتاحة المجال للجميع لإبداء رأيه وتوضيح أسبابه. والغرض من ذلك تمثل تماماً في إظهار نسبية جميع الآراء مقارنة مع كلية الأزمة السورية التي أصابت جميع السوريين. وهذا ما عبرت عنه المدونة بالاعتراف الجماعي بالحالة السورية من خلال مبدأ المكاشفة والاعتراف، إذ يتمثل أحد أهم أهداف هذا المبدأ في امتصاص الاحتقان المجتمعي من خلال وضع الآراء المختلفة في سياق نسبي واحد.

 

من واقع الآراء الصريحة التي تم تبادلها بين المجتمعين، انطلق البحث في الآراء المختلفة عن المفاهيم المشتركة التي يمكن أن يتوافق عليها الجميع ليس فقط لتناسبها مع الحالة السورية، بل لأنها أيضاً يمكن تظهر نسبية جميع المعادلات المرتبطة بالحالة السورية. فالمدونة مثلاً قد نصت في بندها الأول على وحدة الأراضي السورية بشكل مطلق، ولكنها في نفس الوقت لم تتطرق إلى مسألة تحديد شكل الدولة أهو مركزي أو اتحادي أو لامركزي، والذي يناقش حاليا في الكثير من الأوساط، وإنما تركته لمعادلات الحل السياسي القادم. كما أنها نصت في مبدئها الثالث على أنه لا يوجد منتصر في الحرب السورية. وهذا ما يعني بشكل أو بآخر بأن أي نصر عسكري هو مسألة نسبية لا يمكن التعويل عليها، إذ أن انتصار السوري على السوري بالأساس هي فكرة مرفوضة جملة وتفصيلاً، كما أن الإشكاليات التي ترتبط بأي نصر عسكري والمتعلقة بالبنى التحتية وأحوال الناس تطغى على جميع اعتبارات ومفاهيم النصر العسكري.

 

في نفس الإطار يمكن أن نفهم المبدأ الرابع، والذي يؤكد على أن جميع المشاركين في الأعمال القتالية قد قاموا بجرائم بحق الشعب السوري. صحيح بأنه مبدأ عام، ولكنه يؤكد في نفس الوقت نسبية أي موقف يمكن أن يبرر أي عمل إجرامي بحق أي سوري. وهذا يرتبط بشكل وثيق بالدعوى إلى المحاسبة الشخصية في المبدأ الخامس، والذي يهدف أيضاً إلى إظهار النسبية في مجرد التفكير بالانتقام من مجموعات بشرية معينة لانتماء أشخاص معينين في مواقع معينة، وبتحميل تلك المجموعات، ولو بالإشارة غير المباشرة، وزر ما قام به أي فرد. كما أن نسبية مفاهيم الأكثرية والأقلية من أية ناحية من النواحي الدينية أو المذهبية أو العرقية ودورها في المجتمع هي مسألة أظهرها المبدأ الثامن من خلال تأكيده على الهوية التنوّعية ومنعه لأية محاولة لاحتكار الحياة الثقافية أو السياسية أو الاجتماعية من قبل أية جماعة. هذه المسألة ترتبط بشكل جوهري بمنع بناء السياسة على أساس الانتماء لأية جماعة قومية أو دينية أو مذهبية، وهو ما نص عليه المبدأ التاسع بشكل واضح.

 

بغض النظر عن الشرح التفصيلي لكل مبدأ من مبادئ المدونة ومحاولة التعمق فيه، إذ أن مكان الشروح التفصيلية ليس في هذه العجالة، فإن الأمثلة التي ذكرت من المدونة إن دلت على شيء فإنما تدل على إمكانية التوصل إلى تفاهمات بين السوريين مهما اختلفت مواقفهم من الأزمة ومهما تعددت انتماءاتهم السياسية والعقائدية والاجتماعية. نقطة الانطلاق الأكثر أهمية في هذا المقام يجب أن تكون التحديد الدقيق للمواضيع وقبول مبدأ نسبية المواقف منها. وبالعودة إلى المدونة، سأصدقكم القول بأنها لم تكن لترا النور لو استمرت نقاشات الاجتماعات الأولى حول توصيف ما حدث في 2011، والتساؤل فيما إذا كان ثورة أو لا. عندما اقتنع الجميع بفكرة "سمها ما شئت، ولكن دعنا نحدد المسائل الجوهرية في الأزمة ونحاول أن نجد توافقات حولها"، لم يحتاجوا لوقت طويل لتبني المبادئ الإحدى عشر والتصديق عليها. لعل في طريقة التفكير هذه مثالاً يحتذى به لمن يتفاوضون في جينيف، لعلهم يتبنون نسبية المواقف ويوجهوا عقولهم وقلوبهم نحو مفهوم مطلب واحد: نريد حلاً!