مما لا شك فيه أن الأزمة السورية شديدة التعقيد

  • لأسباب داخلية ذاتية، تتلخص باحتكار الحياة السياسية لعقود طويلة، الأمر الذي أدى إلى اختناقات سياسية لم تجد طرقاً طبيعية للتنفس عبر الوسائل الطبيعية للعمل السياسي، مما أدى إلى حالة انفجار عشوائي، و تشظي في بنية المجتمع السوري .
  • و لأسباب إقليمية و دولية، تتعلق بإعادة تشكيل النظام العالمي برمته، فكانت سوريا إحدى الساحات التي تَمظهَرَ فيها هذا الصراع مستغلاً الهشاشة الداخلية البنوية للمجتمع السوري، حيث تم إيقاظ (أدوات ما قبل الدولة )، و استغلالها كبيادق في حروب الوكالة أو ما عُرف بحروب الجيل الرابع  .

و إذا كان من الصعب التحكم بالعوامل الخارجية التي استثمرت في الأزمة، فإنه لا مندوحة و لا مناص من فتح حاشية على العوامل الداخلية البنيوية التي ساهمت في إضعاف الهوية السورية بوصفها انتماء جامع مانع، و وعاء هوياتي يصنع كينونة مكتملة و حصينة بذاتها، علماً أن ما سيُقال لا يختصر كل عوامل الأزمة الداخلية و لكن المقام لا يتسع لأكثر من مقال.

 باستثناء خريطة و بضعة أوراق في أدراج الأمم المتحدة، فلا يوجد في تاريخ سوريا الحديث أي جهة سياسية أو أيديولوجية، تعترف بسوريا كوطن ناجزو نهائي .

الإسلاميون السوريون : يدعونها بلاد الشام كجزء من دولة الخلافة الإسلامية التي ينتظرون و يعملون على إحيائها من جديد!

- الشيوعيون اليساريون : تماهوا مع شعار الأممية العالمية، واعتبروها جزءً مُلحقاً بهذا الاستقطاب الدولي الذي رسم حدود الحرب الباردة بين المعسكرالرأسمالي الليبرالي، والمعسكر الاشتراكي الشيوعي  .!

- العروبيون، البعثيون، والناصريون، والوحدويون الاشتراكيون : تبنوا فكرة الوحدة العربية كوطن نهائي، وبنوا كل سياساتهم على مرحلية القطرية المُسخّرة من أجل فكرة القومية الأعلى و لأسمى .!

- القوميون السوريون : اعتبروها جزءً من الهلال الخصيب وسوريا الطبيعية الكبرى !

- الكردية السياسية، تريد اقتطاع قسم منها و ستتباعها إلى دولة كردستان التاريخية الافتراضية ! .

.علينا أن نعترف أن أحلام الساسة السوريين وطموحاتهم كانت دوماً تتجاوز الحدود السورية المعترف بها دولياً .

و علينا أن نعترف اليوم أن هذه الطموحات كانت غير واقعية بما يحيلها إلى الوهم الأيديولوجي.

و أيضاً علينا أن نعترف أن تلك الأيديولوجيات ساهمت ( بقصد أو بدون قصد )، في إضعاف حياكة الهوية الوطنية المكتملة والجامعة .

عند الجدال مع تلك الأيديولوجيات فإنً حجّتهم الحاضرة هي ( سايكس – بيكو )، اللذان رسما تلك الحدود دون استشارة أهل المنطقة، وأنها خطوط استعمارية فرضت بالقوة .

و بالرغم من أن هذا برأينا صحيح، وبالرغم من أنً تلك الخطوط مصطنعة افتعالاً، لكن هذا لا يكفي للادعاء بالاصطناع بالمعنى الذي يُجرد من الأهلية و المشروعية القانونية و الدستورية وفق التعريفات الحديثة التي رافقت تحديد وتحريرالدولة الوطنية الحديثة بعد القرن التاسع عشر.

فهذا ’’الاصطناع ’’ لم يحدث في فراغ، ولم يحدث بدون مسببات وبدون أهلية ما للاصطناع.

الاصطناع هو اختراع شيء غير موجود، وهو افتعال مطلق .!

 سوريا ليست اختراعاً، وليست افتعالاً مطلقاً والشعب الذي يعيش فيها اليوم لم يأتِ من مجرات وكواكب أخرى، بل عاش منذ آلاف السنين على هذه الأرض، واكتسب هويته وشخصيته الخاصة من تاريخها قديماً و حديثاً، بحيث تحول الشعب السوري إلى حامل حقيقي لتراث معرفي بدأ على هذه الجغرافيا بالأبجدية الأولى و النوتة الموسيقية الأولى والأرقام التي يعتمدها العالم ( (123456، و أيضاً في هذا الإقليم عرفت البشرية بدايات تلمسها للاجتماع و المعرفة و الزراعة، و لم ينتهِ كحامل للديانات الابراهيمية الثلاث التي ساهمت في تكوين ضمير المنطقة ومن ثم العالم  .

و بالرغم من تعرض هذه الجغرافيا إلى العديد من الغزوات والاحتلالات و التغيرات السياسية، إلا أن الجذر السوري الحضاري، ساهم إيجابياً في كل تلك التعاقبات وترك فيها بصمته الخاصة، بحيث كان أكثر تأثيراً بها مما أثًرت به، ولعل أبلغ تعبير عن هذه الحقيقة التاريخية هو ما قاله الشاعر الروماني جوفينال (50-127م) :

 ((ان مياه نهر العاصي في سورية تصب في نهر التيبر في روما)).

 

المشكلة لم تكن يوماً في سوريا التاريخ والجغرافيا، المشكلة كانت ولا تزال هي أي سوريا نريد ؟!.

 

ليس من حقي أن أجيب وحدي على هذا السؤال، والجواب يجب أن يكون جماعياً توافقياً، بحيث يُبنى عليه مشتركات تأسيسية جامعة، لكن كمواطن سوري وكناشط في الشأن العام من حقي أن أدلي بدلوي و أقول :

(( سوريا بلد ناجز نهائي لكل السوريين على اختلاف انتماءاتهم الدينية و الاثنية، والسياسية على قاعدة دولة المواطنة و القانون )).

مع التأكيد هنا أن ’’السورنة ‘‘ ليست في مواجهة أحد، وليست دعوة انعزالية، بل تترافق بشكل وثيق مع الإدراك الواقعي البراغماتي بأن الفضاء العربي هو محيطها الطبيعي، و هي أيضاً بحكم تركيبتها السكانية جزء من الفضاء الإسلامي، كما أنها جزء من المنظومة العالمية على قاعدة المصالح المشتركة واحترام السيادة وفقاً للقوانين الدولية .

 

ميشيل عرنوق

 

د. ميشيل عرنوق ©

2021.11.1616.11.2021