إن من نافل القول، أن التقية التي كانت تغلف مكونات المجتمع السوري سقطت في الأشهر الأولى من بدء الأزمة. وليس هذا فقط هو ما أجج صراع طائفي أنكره الجميع قبل أن يصيح الديك ثلاثا، بل أنكروه ألاف المرات وما زالوا حتى لحظة كتابة هذه السطور. لكن ما يعنينا ليس النكران، ما يعنينا هو كيف يمكن أن تتغير دواخل النفوس ويموت الخوف المتبادل من الآخر، وتظل تلك الاحتقانان تحت الجلود تنفر من أبسط حكة فنعود بخفي حنين إلى تلك الدائرة المفرغة من إيديولوجيات التقية والخوف المقنع بها.

 

لم تستطع كل أشكال المنظمات التي تشكلت بعد الاستقلال وفي عهد سوريا الحديث أن تقتلع من النفوس هذه التقية، وحتى المدارس والمعاهد والجامعات لم تؤدِ أي دور في تغيير يؤدي لتحول المجتمع السوري بتنوع طوائفه وأعراقه إلى مجتمع مدني يعيش فيه السوريين جميعا بمساواة حقيقة في الواجبات والحقوق.

 

من المؤلم أيضاً، أنه حتى الأحزاب التي نهضت في هذه الفترات في الحياة الاجتماعية السورية، إن كان منها تحالف الجبهة الديمقراطية الشعبية بقيادة حزب البعث أو حزب الكتلة الوطنية، أو حتى الأحزاب الممنوعة التي ظهرت خلال فترات الانقلابات وما بعدها، لم تساهم بإنهاء هذه التقية. وقد استمر الوضع على ذلك حتى بعد أن استقر نظام الحكم للبعث، والذي اعتبر بدوره الكثير من الأحزاب دخيلة على المجتمع السوري وخطراً عليه. على ذلك، فقد تم قمع تلك الأحزاب وملاحقة أعضائها اللذين كان لهم رؤيتهم المعارضة وموقفهم من الفساد. هذا أيضاً ما أدى إلى منع استنهاض المجتمع السوري ليكون نواة مجتمع مدني تكون له القدرة على وأد تلك التقية التي يتجمل بها الجميع دون أن يكون لها أية فائدة ترتجى في بناء وطن صالح لتعايش كل مكوناته، مبني على مواطنة الفرد ودوره الأساس في بناء وازدهار الوطن، وقائم على مبدأ تكافئ الفرص للجميع.

 

لقد حطم هذا التاريخ أي أمل بإيجاد عقد اجتماعي جديد ومتجدد بين مكونات المجتمع السوري، يمثل الأساس لإدارة التضاد فيه، ضمن مفهوم الدولة السورية الشاملة القائمة على احترام هوية الأفراد المتنوعة بما أنها الضامن لبناء الدول والأوطان. على هذا، فإن ما أفرزته الأزمة السورية على مدى عقد من الزمن من آلام وخراب ودمار وتهجير وموت، يجب أن يؤدي بالنتيجة إلى تداعي الجميع لإيجاد صيغة لتعايش جديد، وإرساء مشروع المواطنة الحقيقة التي يمكن من خلالها، وبعقد اجتماعي جديد يقوم على مبادئ فوق دستورية، أن ينطلق العمل باتجاه وضع دستور يقود البلاد إلى شاطئ الأمان وتأسيس الدولة المرجوة.

 

من هذا المنطلق وهذه المراجعة، حري بنا نحن السوريين أن نقف بداية ونعترف بأننا جميعا شركاء في هذا الخراب، وأنه علينا إذاً أن نكون جميعا شركاء في إعادة الحياة لسوريا المستقبل التي ستنهض كدولة قانون تتحلى بشريعة المساواة في الحقوق والواجبات وتبنى على المواطنة التي تعلي قيمة الفرد من خلال ما يقدمه في بناء الوطن. فهذا الوطن يجب أن يكون قدس الأقداس والعقيدة الوطنية الوحيدة، فلا تقية بعده ولا خوف ولا استعلاء. فالجميع متساوون، وقيمتك العليا هي ما تقدمه أنت كفرد من أجل الجميع وما يقدمه الجميع من أجلك كفرد.

 

هذا ليس مجرد شعار الفرسان في غابر الأيام، بل هو حقيقة انتماء وعيش مشترك ضمن جغرافية واحدة، وحدود واحدة، يجب الحفاظ عليها والذود عنها لبقاء وحدة الوطن. إن بناء الأوطان لا يقوم على حل سحري أو إلهي على مبدئ كن فيكون، فكل الدول المتقدمة مرت بكوارث وحروب وخراب. وقد يقول قائل بأن لكل بلد ظروفه وخصوصيته، والحلول لن تكون مجدية لأن التجربة مختلفة تماما، فالوضع الجغرافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي والتركيبة الديمغرافية لتلك البلدان مغايرة عن للإحداثيات السورية. هذا حقيقي ولا يمكن إنكاره، ولكن لا يمكن إنكار إمكانية الاستفادة من تجارب الدول الأخرى.

 

إذاً، فالحالة السورية من حيث المبدأ لا تشبه أية حالة بلد آخر، ومقومات العودة والبناء لن تكون بالضرورة قائمة على حلول ناتجة عن تجارب دول الأخرى. عليه فإن الحل السحري يكمن في تعريفه بأنه سوري سوري بالمطلق، وبأن ما سيبدأ بخطوة، سنقطع به آلاف الأميال كي نعيد كينونتنا الوطنية. من هنا، ومن خلال ما تقدم أعلاه، فإن مجموعة السوريين، بمختلف شرائحهم، التي التقت وبدأت الإبحار في سفر محاولة إنقاذ الوطن المتشظّي والآيل للسقوط في مستنقع التفكك والتدويل والإمعان في الخراب، ومن خلال جلسوهم وجها لوجه على طاولة واحدة قاموا بتعميم سوريتهم ووضعها فوق كل انتماء طائفي وعرقي. لقد كانت كلمة السر المقدسة في اجتماعاتهم، ومازالت، هي سوريا الواحدة بشعبها وأرضها. ومن رحم انتمائهم لهذا البلد ولدت مدونة سلوك لعيش سوري مشترك، لتكون الخطوة الأولى في رحلة تلك الأميال الألف لبناء هذا الوطن لجميع أبنائه.

 

وعليه، فإننا ندعو كل السوريين في الخارج والداخل، وفي كل بقعة من هذه المعمورة إلى الإنصات لصوت ضمير هذه المدونة، والالتفاف حولها بما قدمته وما ستقدمه من خلال كل أهدافها ومبادئها، التي تشكل دستوراً يعيد اللحمة والعيش المشترك وإعادة بناء ما تهدم في الإنسان السوري والسعي للحفاظ على هويته العميقة في التاريخ الإنساني. ولنهتف جميعا من قلوبنا عاشت سوريا.

مجلس المدونة السورية ©

2021.08.0202.08.2021