لا جرم في القول بأن أهم معيار من المعايير الناظمة للقاعدة الدستورية يتمثل في وسطيتها، أي في كونها تعبيراً عن حل وسط توصل إليه الأمهات المؤسسات والآباء المؤسسون عضوات وأعضاء المجلس التأسيسي في لحظة معينة. ومن أهم خصائص الحل الوسط في وثيقة الدستور أنه مسألة لا ترضي أحداً بشكل كامل، ولكنها أيضاً يجب ألا تغضب أحداً بشكل كامل. هذا يعني بأن القاعدة الدستورية يجب أن تكون قاعدة محايدة تتجاوب مع كل المصالح والرغبات، وتعارضها بنفس الوقت بشكل جزئي أحياناً وبشكل كلي في أحيان أخرى. على أن التعارض الكلي بين مصالح فئة معينة وقاعدة دستورية معينة يعني بشكل أو بآخر بأن مصالح ورغبات تلك الفئة قد ضُمنت في قاعدة دستورية أخرى، ما يؤدي إلى القول بأن تعارض المصالح في كلا القاعدتين هو أساس التوازن في الوثيقة الدستورية ككل. هذا توازن في وثيقة الدستور وتمتع قواعدها بدرجة عالية من الحيادية يظهران بشكل جلي ضرورة أن يكون أمهات وآباء الدستور على درجة عالية من الحكمة والعقلانية في معالجة الأمور، على الرغم من أن الأغلبية منهم تمثل المصالح السياسية المختلفة للفئات المؤثرة في عملية إعداد الدستور.

يظهر تمثيل المصالح السياسية المختلفة في لجنة الدستور السوري جلياً من خلال تقسيم الأعضاء إلى خمسين عضواً تعينهم الحكومة السورية (أو النظام بالتعبير المتداول)، وخمسين آخرين يعينون من قبل المعارضة (أو منصات التمثيل والمفاوضة) وخمسين يعينون من قبل الأمم المتحدة، ينقسمون أيضاً إلى شخصيات قريبة من المعارضة وأخرى من النظام. هذا التقسيم قد يعني في حالة تشبث كل طرف بأعلى درجة من مطالبه، بأنه لا يمكن الوصول إلى وضع قواعد دستورية مقبولة من جميع الأطراف. على أن إعمال مبدأ توازن القواعد الدستورية بشكل عقلاني قد يؤدي إلى التوافق على قواعد دستورية تحقق مصلحة طرف وقواعد أخرى تحقق مصلحة طرف آخر، إذا كان هناك سعي فعلي من الأطراف كافة إلى التوافق على وثيقة دستورية.  

بغض النظر عن إمكانية إعمال مبدأ التوازن في الدستور السوري القادم أو عدمه، فإنه يجب الاعتراف بأن مبدأ الخمسين في اختيار أعضاء اللجنة الدستورية هو أفضل ما يمكن الوصول إليه من الناحية السياسية على ضوء الأوضاع الداخلية والإقليمية والدولية القائمة. على الرغم من ذلك فإن التفكير البرغماتي التقني قد يفضي إلى القناعة، بأن تحقيق التوازن في القواعد الدستورية المرتقبة كان يمكن أن يتم عن طريق إعمال مبدأ عبور الانتماءات في اختيار أعضاء اللجنة الدستورية. بما معناه أنه بناء على طريقة اختيار أعضاء اللجنة الدستورية يجب طرح التساؤلات التالية: ألم يكن بالإمكان إيجاد ديناميكية لتحديد شخصيات تنتمي إلى الوسط السياسي والاجتماعي السوري تكون مقبولة من الجميع لأنها لا تحسب على أي طرف؟ أو أنه لم يعد يوجد في هذا النزاع شخصيات سورية تستطيع تجاوز انتماءاتها أو يمكن الوثوق بها من الجميع؟

لعل هذه الإشكالية ترتبط بسيكولوجيا النزاع السوري الذي دار وما زال يدور حول فكرة "من ليس معنا فهو علينا". فالسوريون في الداخل ينظرون بعين الريبة إلى الخارج السوري. فمن يحاول النظر إلى النزاع بأي منظار تحليلي لأخطاء كل الأطراف ومسؤولياتها، يوصف بالخيانة دون بذل أي جهد لمناقشة رأيه بحيادية ومنطقية. نفس الشخص يمكن أن يوصف من السوريين في الخارج بالعمالة، إذا لم يحمل النظام السوري المسؤولية الكاملة عن كل ما يحصل في سورية. مما يعني باختصار بأن الحيادية في التعامل مع النزاع السوري هي مسألة مرفوضة تماماً من كل الأطراف. هذا الرفض يؤدي ليس فقط إلى صعوبة التوافق في اللجنة الدستورية، بل إلى صعوبة نشوء أي تيار أو اتجاه سياسي يبحث عن حل للأزمة السورية بشكل يخرج عن الانتماءات والتقوقع. من جهة أخرى فإن هذا الرفض لأي موقف يعالج النزاع السوري بحيادية يظهر بشكل جلي ضرورة العمل على تأسيس تيار سياسي يقف على نفس المسافة من الجميع.

هذا التيار العابر للانتماءات السياسية والاجتماعية يمكن أن يشكل حركة دستورية سياسية رديفة لعمل اللجنة الدستورية الحالية. فالتوازي بين عمل الحركة المقترحة وعمل اللجنة الدستورية يعني ببساطة بأن هذه الحركة لا تسعى بأي شكل من الأشكال للحلول محل اللجنة الدستورية أو لإلغاء العملية السياسية في جينيف. من جهة ثانية فإن حركة من هذا القبيل يمكن أن تشكل الرديف الاجتماعي والثقافي لعمل اللجنة الدستورية. إذ أن علم القانون الدستوري الحديث تجاوز بنظرته إلى الدستور كافة الأبعاد التقنية قانونية، السياسية والاجتماعية المرتبطة بوثيقة الدستور. فالدستور أصبح ينظر إليه على أنه وثيقة ثقافة مجتمعية شاملة، وعلم القانون الدستوري أصبح يعتبر علم ثقافة بالمعنى الواسع أكثر منه علم قانون بالمعنى الضيق. فالحركة من هذا المنطلق يمكن أن تساهم في تطوير البعد الثقافي الاجتماعي للعملية الدستورية برمتها من خلال العمل على وثيقة دستورية رديفة ليس لها إلزامية وثيقة جينيف، ولكنها يمكن أن تعكس مبدأ التوازن في الدستور ليس من منطلق المعادلة بين القواعد التي تخدم مصلحة كل طرف، بل من منطلق إيجاد الحل الوسط في القاعدة الدستورية بحد ذاتها. وبما أن الحركة تنطلق من فكرة تجاوز الانتماءات السياسية والاجتماعية واندماجها، فإن عملها يساهم في نقل النقاش الدستوري إلى المجتمع السوري في الداخل والخارج، ما يعطي القواعد الدستورية التي سيتم اقتراحها من قبل الحركة بعداً تثقيفيا اجتماعياً، خصوصاً عندما يعتمد النقاش على مبدأ العلنية والمساواة في التعامل مع الآراء كافة على اختلافها وتعارضها.

يرتبط البعد الإجتماعي للقاعدة الدستورية ونشر الثقافة الدستورية ارتباطاً وثيقاً بالفكرة الرئيسية لعلم القانون الدستوري كعلم ثقافة، والتي تقوم على أن وضع، وتطبيق، وتفسير الدستور هو مهمة تتشارك فيها الدولة بسلطاتها والمجتمع بفعالياته ومنظماته كافة، دون أن يكون حكراً على لجان أو هيئات أو مجالس معينة. إذاً، فأهمية الحركة العابرة للانتماءات للعملية الدستورية بأنها تجمع الأصوات والآراء كافة وتؤمن انعكاساً متعادلاً لها في وثيقة دستورية لها بعد اجتماعي واسع. من ناحية أخرى، فإن حركة من هذا النوع تؤمن ارتباطاً وثيقاً وتفاعلاً عضوياً بين النقاش الدستوري والنقاش الاجتماعي السياسي حول شكل الحكم وبنيته والحقوق الأساسية وتأثيرها. إذ أن النقلة النوعية للعملية الدستورية السورية في جينيف في الوقت الحالي تتمثل بكسب أطر جديدة للنقاش الدستوري وتوسيع أفقه ليشمل الحوار حول الحل السياسي الشامل للوضع السوري. وهنا تكمن أيضاً إحدى عقد الأزمة السورية التي تتمثل بأن أطراف النزاع السوري، طبعاً استخدام كلمة أطراف هنا ينطلق من القناعة بأنه على جانبي النزاع يوجد أطراف ومصالح متعددة، لا تزال ترى بأن مجرد قبولها بالبحث عن حل سياسي حقيقي، قد يفقدها وزنها وشرعيتها بين أنصارها. من هذا المنطلق تماماً تكمن القوة السياسية للحركة العابرة للانتماءات السياسية والاجتماعية، إذ أنها تسحب الشرعية الفردية من الجميع وتحل محلها شرعية جماعية نابعة من فكرتها الاندماجية. فأكثر ما تحتاجه سوريا في الوضع الراهن هو شرعية جماعية لحل سياسي. والطريقة الوحيدة للوصول إلى ذلك هي أن يبدأ كل سوري بسؤال نفسه حول طريقة تفكيره بالنزاع إذا كان القدر، وبشكل افتراضي، قد وضعه على الطرف الآخر من النزاع؟ هذا التبادل الافتراضي للمواقع يساهم بشكل كبير في تقبل فكرة عبور الانتماءات كأساس لأي عمل سياسي أو دستوري جماعي يمكن أن يكون أساساً في حل ممكن للأزمة السورية المستعصية.

بقلم الدكتور ناصيف نعيم ©

2020.08.0707.08.2020