لا جديد بالعمق الجيوسياسي في مكاشفة وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو وإماطته اللثام عن الحديث الذي دار بينه وبين وزير خارجية النظام السوري في صربيا، لجهة حديثه عن ضرورة إعادة العلاقات وبناء تفاهمات جديدة، إذ أن الوقائع تؤكد أن اللقاءات ذات الطابع الأمني مستمرة ولم تتوقف طيلة السنوات المنصرمة. وكذلك فإن التسويات وتبادل المواقع مع النظام، واللتان تمتا عبر الوسيطين الروسي والإيراني، متواصلان دون انقطاع. فتركيا كانت على الدوام ولاتزال لاعباً وطرفاً رئيسياً ينوب عن المعارضة في اتخاذ القرار وفرضه وتنفيذه.

 

لكن الجديد ليس فقط وضوح الاستدارة التركية نحو النظام، وإنما التعبير والتصريح بشفافية أكثر من ذي قبل عن النوايا التركية المضمرة تجاه قضايا رئيسية مهمة على رأسها عودة اللاجئين ومصير المناطق الخارجة عن سيطرة النظام. وهذا ما أثار غضباً عارماً في الشارع السوري المعارض، واستياءً وإحباطاً لدى الجماعات الموالية لتركيا، تلك التي تجد فيها نموذجاً يحتذى به لسوريا المستقبل. وجاءت ردة الفعل سريعة في مناطق شمال غرب سوريا، وهي من الناحية العملية خاضعة للنفوذ العسكري التركي، وتعد مصدر قوتها في الملف السوري، عبر مظاهرات رافضة لأي شكل من المصالحة مع النظام بوجود الأسد، ومنددة بنفس الوقت بالتخاذل التركي.

 

هذا الحراك المدني أعاد للأذهان مشاهد المظاهرات الأولى، قبل أحد عشر عاماً، إلا أنها هذه المرة لم تربك دمشق، إنما أربكت أنقرة. على إثر ذلك وصل التخبط التركي لدرجة اتهام أطراف خارجية بالتدخل، وكما لو أنها ليست طرفاً خارجياً متدخلاً. تلا ذلك سلسلة من الاعتقالات طالت المتظاهرين داخل سوريا والمتضامنين معهم عبر وسائل التواصل في المدن التركية، والتي تزامنت مع سيل من تصريحات السياسيين والمحللين الأتراك لتخفيف الاحتقان وتهدئة الأوضاع بخصوص عودة العلاقات المحتملة في المدى القريب.

 

على خلفية ردود الفعل الشعبية السورية هذه في شمال غرب سوريا، وبطريقة قياس رجع الصدى للطريقة التي قابل بها السوريين الخاضعين لنفوذ النظام، أو حتى مناطق سيطرة قسد لتلك التصريحات، يبدو واضحاً أن الشارع السوري بكل تشعباته وميوله لم يعد يثق بجدوى الاصطفاف خلف الدول الثلاثة، والتي تصدرت المشهد باسم الدول الضامنة. وهنا يمكن القول بأن الخط البياني للسياسات التركية حيال مستجدات السياسات الدولية عموماً، وفي سوريا تحديداً، ذو مسار متلوٍ كثير التعرجات في ظاهره، وفي حقيقته مسار يمضي بثبات نحو الأهداف الاستراتيجية غير المعلنة منذ البدايات، والتي تتلخص في محاربة التهديد القادم من نفوذ حزب العمال الكردستاني وذراعه السوري (ب ي د). على الأقل، فإن هذا ما يفصح عنه الساسة الأتراك من خلال إعادة وتكرار أسطوانة حماية الأمن القومي التركي، والتي تتخذ من سياسة الهجوم خير وسيلة للدفاع، وما تصريح الرئيس التركي أردوغان إلا تعبيرا صادقا عن توجهات تركيا الحالية حين قال: "ليس لدينا هدف من قبيل الانتصار على بشار الأسد".

 

وبالعودة إلى الأيام الأولى للحراك الشعبي في سوريا فقد حاولت تركيا إقناع النظام السوري بتقاسم السلطة مع تيارات الإسلام السياسي القريبة منها، كما كان لها محاولات سابقة في ذات المضمار قبل عام 2011. كل هذه المحاولات باءت بالفشل واستعيض عنها باتفاقيات اقتصادية وثقافية سهلت لتركيا العبور إلى المجتمع السوري، والتركيز الأشد كان على حلب لما لها من وزن اقتصادي ودلالة رمزية في التاريخ العثماني.

 

لكن وبعد تطور الأمور في سورية إلى نزاع عسكري، صعدت تركيا دورها في دعم عسكرة الحراك الشعبي، وتبلور توجهها لاحقاً في تحييد الضباط المنشقين وركنهم جانباً، واستبدلتهم بقادة فصائل محليين ذوي توجهات إسلامية، مستفيدة من التردد العربي في دعم واستقبال المعارضة السورية، حيث جمعت في قبضتها كل خيوط اللعبة عبر سياسة الحدود المفتوحة أمام تدفق اللاجئين الفارين من المناطق الملتهبة. وقد ترافق ذلك مع تدفق السلاح والجهاديين الوافدين في نفس الوقت. ولعل هذا الاستحواذ التركي على الملفين العسكري والإنساني هو ما أوقع الأطراف السورية في المعارضة الرسمية لاحقاً في فخ الارتهان الكامل لتركيا.

 

ويحتوي أرشيف تصريحات المسؤولين الأتراك السابقة تحذيرات عدة للنظام بعدم السماح بتكرار مجازر مشابهة لتلك التي حدثت في الماضي. عملياً، فقد كانت العمليات العسكرية العنيفة تجري على قدم وساق بدون أي ردة فعل تركية، لا بل كان الدور التركي مدمراً في ضرب البنية الاقتصادية لمدينة حلب لإنهاء ثقلها الصناعي في مزاحمة ومنافسة مدن تركية مثل إسطنبول وغازي عنتاب، ما تقاطع مع أجندات النظام  بالتخلص من ثقل المدينة وقوتها. وفي عام 2016، وبعد نجاح صفقة تسليم حلب مقابل كريدور جرابلس والباب عبر توافق تركي روسي إيراني، تحولت هذه الترويكا لمرحلة أخرى في إدارة الأزمة عبر إطلاق مسار أستانا وإقامة مناطق خفض التصعيد، التي غالباً ما شهدت مقايضات وتصعيدات غير مسبوقة على الأراضي السورية. ورغم أن الدول الثلاث لم تعلن نفسها بديلاً لمسار محادثات جنيف، إلا أنها بدون شك قوضت ذاك المسار واختصرت العملية السياسية برمتها بتشكيل اللجنة الدستورية كأحد المخرجات الرئيسية لمؤتمر سوتشي، على مقاس المطامع والأجندة المستقبلية لهذه الأطراف في سوريا، والمرتبطة على نحو وثيق بخرائط النفوذ التي رسمتها على الأرض، والتي ترافقت مع عمليات التهجير القسري ومخططات الهندسة الديمغرافية وفقاً لمصالحها، بهدف التأسيس لمرحلة المناطق السورية المفيدة لكل طرف متدخل، أي وبصيغة أخرى مناطق احتلال متفق عليها.

 

من جهة أخرى، يكتشف المتابع للدور التركي في سوريا منذ 2011 وحتى 2016 أنها لم تترك الحبل على غاربه لعبور الجهاديين فقط، وإنما غضت الطرف أيضا عن تضخم أنصار حزب العمال الكردستاني في المناطق ذات الغالبية الكردية، الأمر الذي بدا محيّراً ومبهماً للبعض في البداية. فقادة حزب الاتحاد الديمقراطي استخدموا في بعض الأحيان المطارات التركية في تنقلاتهم، ونشطت تجارة التهريب على طرفي الحدود. عملياً كان الأمر بمثابة التحضيرات الأولية لعملية استثمار طويلة الأمد لاحقاً، بغرض إيجاد موطئ قدم ثابتة على طول الحدود السورية الشمالية وإخضاعها للهيمنة الكاملة. وما الإصرار التركي اليوم على القيام بالمزيد من العمليات العسكرية تحت ذريعة ما يسمى بالمنطقة الآمنة لإعادة ملايين السوريين اللاجئين على أراضيها، أو التهديد بفتح الحدود أمامهم مع أوروبا، كما جرت العادة، إلا استمراراً ونتيجة لهذه السياسة.

 

ما يمكن قوله أن تركيا تستكمل مشاريعها السابقة والمتممة لما بدأته في عفرين وجرابلس وإعزاز والباب وريف ادلب وتل أبيض ورأس العين. و ما يفهم من سياق المساعي الروسية في التقارب التركي مع النظام السوري، هي الرغبة المشتركة بتطوير اتفاقية أضنة لعام 1998 لتشمل حلاً لملف إعادة اللاجئين وإعادة تعويم النظام، ما يعد من أولويات روسيا اليوم، حتى لو اقتضى الأمر تلبية الطموح التركي في ضم بعض المناطق السورية وبشكل نهائي لأراضيها عبر صيغة ما يتفق عليها لاحقاً، وبما يحفظ ماء وجه النظام.

 

وختاماً فإن هدف روسيا اليوم فتح جبهة دمشق لإشغال أمريكا وأوروبا عن جبهة كييف. وتدل مؤشرات السياسة التركية أنها ماضية أكثر من أي وقت آخر ضمن حيز المسار الروسي، حيث يتجلى ذلك في تصريحات أردوغان بعد لقائه مع بوتين، والتي كال فيها الاتهام  لأمريكا صراحة بدعم وتمويل الإرهاب. هذه الاتهامات تضع واشنطن في موقع محرج للغاية سيما وأنها تأتي في مرحلة مفصلية تعاني فيها أمريكا وأوروبا قلقاً حقيقياً من الحرب الروسية على أوكرانيا، خاصة إذا عرفنا أنها تأتي من قبل حليف طالما أكدت أمريكا على أنه حليف استراتيجي.

صبيحة خليل ©

2022.08.3030.08.2022