تم تعريف الجغرافية السياسية من قِبل العالم مودي بأنها: "عبارة عن العلاقات المتبادلة بين البيئة والدولة من الوجهة السياسية". من وجهة نظره يعرفها إيريك أوبس على أنها "تهتم بدراسة الظواهر السياسية واختلافها من مكان لآخر متأثرةً في ذلك بالبيئة الجغرافية. أما الجيوبوليتيك فهو العلم الذي يدرس حالة الدولة في المستقبل وتوجيه مقدراتها الطبيعية والبشرية والحضارية لتحقيق امتلاك فلسفة القوة.

وسوريا بدوها تمتلك موقعاً فلكياً مميزاً لجهة خطوط الطول والعرض. فهي تمتد من دائرة العرض 32,19 حتى 37,20، وبين خطي الطول 35,37 و42,25، ما يعني بأن سوريا تقع في نقطة تقاطع في منتصف خريطة العالم. وعليه، "وفي عام 2003 عند الغزو الأمريكي للعراق، اقترح بوش الإبن استكمال الغزو باتجاه سوريا، لكن أحد مستشاريه جلب له خريطة العالم ورسم خطان متعامدان، وكانت نقطة التقاطع في الجغرافية السورية، وقال له: هذه البلد أكثر حساسية وخطورة مما تظن يا سيدي الرئيس". وقد ذكرت تلك الحادثة كي أشير إلى أهمية نظريات الجغرافيا السياسية، وخاصةً في عصرنا الراهن نتيجة التطور الجيوبوليتكي للعالم، إذ أنها ستساعدنا على تفسير ما يحدث من تحولات في منطقة الشرق الأوسط. فنظريات الجغرافيا السياسية تطورت بدءاً بمؤسسها الألماني فريديريك راتزل، من خلال مناهج ومفكرين مثل بيتر تيلور وكولن فلنت، لتصل إلى خلاصات المفكر لاديس كريستوف. كما أصبح الجيوبولوتيك أحد أهم الركائز السياسية التي تتحكم بالمصالح الوطنية والدولية، والتي تبنى عليها سياسات بعيدة المدى.

وبالعودة إلى المعادلة السورية، نرى بأن سوريا هي البوابة التركية باتجاه الوطن العربي. فهي إذاً البوابة الجنوبية لتركيا من جهة، والدولة العازلة (Buffer state) بالنسبة للوطن العربي عن تركيا من جهة أخرى، وهذا ما يفسر إلى حد كبير مواقف الدول العربية، والنظام العالمي من محاولة "النيوعثمانية - الأردوغانية" السيطرة على سوريا. وأردغان نفسه عندما استوعب بأن كسر المعادلات الجغرافية في المنطقة مسألة عليها تحفظات كثيرة إقليمية ودولية، تراجعت أحلامه إلى البحث عن جغرافيا "وقائية" بعرض 30 كم، تكون بمثابة جدار بشري بمكون سني - تركماني يحول دون تمدد كيان كردي إلى العمق التركي، ما يهدد بتفكك تركيا بأكملها. أسوق هذا هنا لان الحدث إبن الساعة الراهنة، وللدلالة على أهمية وقوة الجيوبوليتك وأثره في صواميل الحركة السياسية، التي تعمل كفرامل كابحة لأي تغيير لخطوط الجغرافية ذات الحساسية الخاصة، كما هو الحال في الجغرافيا السورية.

أما بالنسبة لروسيا الطامحة إلى عودة توازن الأقطاب وكسر هيمنة القطب الواحد الأمريكي، فقد رأت في الأزمة السورية أكثر من فرصة سانحة:

لعودة إلى الشرق الأوسط بعد إخراجها من العراق وليبيا، وذلك عبر البوابة السورية.

  • لإيجاد مرتكز ومنطلق في البحار الدافئة على المتوسط يخرجها من عزلتها الجغرافية، ويسمح لها بلعب دور سياسي واقتصادي عالمي.
  • للتحكم والسيطرة على خطوط الغاز في منطقة الشرق الأوسط، والتي تُشكل الجغرافيا السورية معبراً رئيسياً لها باتجاه المتوسط، ومن ثمً إلى أوروبا. والجدير بالذكر هنا بأن شرايين الغاز التي تمر عبر الجغرافيا السورية يمكن أن تكون قد ساهمت سلباً في الأزمة السورية وإذكائها، وفي الصراع الإقليمي والدولي عليها، وتتلخص بما يلي:
    • بأنبوب الغاز العربي الذي ينطلق من السعودية مروراً بمصر والأردن ثم إلى سوريا.
    • بالخط الإيراني الذي ينطلق من حقل الشمال على الخليج العربي (أكبر حقل غاز في العالم تتقاسمه إيران وقطر) مروراً بالأراضي العراقية وصولاً إلى سوريا.
    • بالخط الآخر إلى شمال سيناء وجنوب الأردن ثم إلى مدينة حمص السورية، حيث يتفرع عنه خطان أحدهما إلى مدينة بانياس، والآخر إلى مدينة طرابلس اللبنانية.
    • بخط الغاز القطري الذي يعبر السعودية فالأردن ومنها إلى سوريا وتركيا، ومنها إلى أوروبا.
    • خط غاز نابوكو الذي ينطلق من بحر قزوين وينتهي عند سواحل لبنان مروراً بالأراضي السورية.
    • بالخط الأذربيجاني الذي يمتد من العاصمة باكو إلى الأراضي الجورجية ثم إلى مرفأ جيهان التركي، حيث يلتقي مع أنبوب آخر يمر عبر تركمنستان وإيران والعراق وسوريا التي تعد أحد معابره الهامة.

 

تلك الشرايين الخمس أو الست للغاز الاستراتيجي الإقليمي والدولي جعلت الجغرافيا السورية ساحة صراع مفتوحة مرتبطة بصراعات النفوذ ومحاولات تغيير النظام العالمي الذي تديره أمريكا منذ تسعينات القرن الماضي إبان سقوط الاتحاد السوفياتي. وهنا لا بد من الإشارة إلى إسرائيل كغائب - حاضر دوماً في أزمات الشرق الأوسط، إذ أن الحضور الإسرائيلي على طاولات صانع القرار الأمريكي أضاف تعقيداً جديداً إلى مجمل التعقيدات الأخرى الكثيرة والمتشعبة حول الجغرافية السورية.

وما يلفت النظر في الجفرافيا السياسية السورية هو عودة الأيديولوجيات العابرة للحدود الوطنية ومحاولاتها إعادة عقارب التاريخ إلى زمن الامبراطوريات البائدة، فمن النيوعثمانية إلى النيوفارسية، والتي لم تخفي علناً أو ضمناً رغبتها في التمدد واستعادة الإمبراطورية الفارسية التي تصل إلى شواطئ المتوسط. وعليه لم يكن أي من التدخلات في سوريا من أجلها أو من أجل شعبها، بل كان صراعاً وظيفياً على السيطرة على الجغرافيا السورية. هذه الجغرافيا التي قدرها أن "تتوسط العالم"، بمعنى أنها يجب أن تمسك وتراعي التوازن في كل تلك الخيوط حتى ولو بمقدار "شعرة معاوية" كي لا تنزلق في "الصدوع" الإقليمية والقارية المتحركة. "ولكن، وبغض النظر عن الدخول في التفاصيل و المسؤوليات، فإن هذا لم يحصل عندما هبت رياحٌ خارجية صفراء زعزعت البيت السياسي الداخلي في سوريا"، مما أدى إلى سقوطها من دولة مستقرة في المنطقة إلى ساحة صراع داخلي وإقليمي ودولي شديد التعقيد، إذ أصبح نهر الفرات خطاً فاصلاً، وكأنه جدار برلين آخر يشير بشكل جيوبوليتيكي لعودة الحرب الباردة بحلتها المعاصرة.

وختاماً، فإنه لا شك بأن انتقال الصراع العالمي بين الفيلة الكبار من الشرق الأوسط إلى وسط أوروبا في أوكرانيا، قد جعل الملف السوري يبدو هامشياً في هذه الفترة بالنسبة لأغلبية صانعي القرار الدولي، وهذا أمر مفهوم وطبيعي. لكن هذا لا يعني إطلاقاً أن هذا الملف فقد قيمته وإمكانية المساومة والمناورة حوله من أجل إعادة سوريا من ساحة صراع إلى دولة، على الرغم من كل الجراح العميقة التي غارت في وجدان الهوية السورية وكيانها، والتي يحاول البعض حل معضلتها برسم حدود جديدة لها مسايرةً لمسرى الجراح، بدلاً من محاولة خياطتها بحكمة وتبصر يليق بدورها التاريخي كمنبع للحضارة الإنسانية القديمة.

 

وبالعودة إلى الموقع الفلكي وخطوط الطول والعرض، ما يجدر ذكره هنا بأن "هناك خلافاً لغوياً عند بعض السوريين حول كتابة اسم (سوريا)". فالبعض يقول بأن سورية بالتاء المربوطة وتعني السيدة، وآخرون (وأميل أنا إلى هذا الرأي) يقولون بأن سوريا بألف ممدودة لأن السريانية هي ابنة للغة الآرامية، وتلك الأخيرة لا تحوي حرف التاء المربوطة. "وسوريا" على هذه الشاكلة تعني باللغة السريانية "عمود السماء".

 

الدكتور ميشيل عرنوق ©

2023.02.0101.02.2023