من تطورات مشهد الربيع العربي، بدأ من تونس وليبيا ومصر واليمن، يصل بنا القطار الذي طال واستطال خط سيره إلى منتصف العام الحادي عشر من عمر الثورة السورية اسما، والمقتلة السورية واقعا. هذا ما كنت قد ذكرته في مقالي السابق تحت عنوان: من الحرب وسنواته العجاف إلى السلم الأهلي والعيش المشترك، والمنشورة على صفحة مجلس المدونة السورية بتاريخ 26/05/2021.
وبالعودة إلى المقتلة السورية التي لم يسلم أي سوري داخلا او خارجا من ويلاتها، أقولها جازمة أن ماحدث ولايزال يحدث حتى لحظة كتابتي لهذه الأحرف لايمكن لعقل بشري أو نفس إنسانية تتصف بالكرامة أن تمر عليه مرور الكرام، ومن اتصفت نفسه بالكرامة امتلك حكما الأخلاق، الأخلاق التي تحتم علينا كبشر أولا وكسوريين ثانيا أن نتخذ موقفا من هذه المحرقة السورية.
من هنا نشأت الفكرة، فكرة مدونتنا (مدونة سلوك لعيش سوري مشترك)، وبدأت تحبو في طريق محاولاتنا لتقديم الدعم لسوريا، كل سوريا وكل السوريين على امتداد الأرض السورية. هذا ما يبدو جليا في المبدأ الأول من مبادئها الإحدى عشر، والذي جاء واضحا وصريحا: وحدة الأراضي السورية. هذا المبدأ، والذي لم يتخذ موقعه كمبدء أول مصادفة، اذ أننا كنا ولا نزال وسنبقى ما حيينا نقف عند أهمية وحتمية هذا المبدأ، ولن نتنازل عنه أبدا كما بدأ. فالبعض من أبناء جلدتنا بدأ للأسف بمناقشة اقتراحات مفادها أن يتم اقتطاع جزء او أجزاء من الأرض السورية. هذا الاتجاه، وبغض النظر عما اذا كان اصحابه مكرهين او غير مخيرين، فانه من وجهة نظري الشخصية ووجهة نظر أعضاء المدونة مرفوض رفضا قاطعا.
وكذلك فقد اتخذ هذا المبدأ المكان الأول في المدونة لأنه من البدهي جدا أن الجغرافيا هي أحد أهم ركائز وأسس قيام الدولة، أية دولة. مما يعني بلا أدنى شك أنه لا وطن بلا أرض واحدة وأن وحدة الأرض السورية هي صنو لكرامة السوريين كل السوريين بلا استثناء. على ان تركيزي على المبدأ الأول واهتمامي به لا ينقص أو يقلل من أهمية بقية المبادئ. فالمبدأ الذي يأتي بعد الوحدة مباشرة هو مبدأ المكاشفة والاعتراف، والذي يتحتم علينا بموجبه أن نفتح قلوبنا نحن السوريين أصحاب القلوب البيضاء داخلا وخارجا، ونتسامى عن كل ما من شأنه أن يكون حجرعثرة في طريق حريتنا الذي بدأناه ومستمرين بدعمه حتى تحقيقه، وإني هنا عندما أشيد بأهمية هذا المبدأ لا أقلل لاسمح الله من قدسية وطهارة الدماء السورية كل الدماء السورية بلا أي استثناء. لأنه عندما يتسامى السوريين عن كل الأحقاد ويكاشفون بعضهم البعض ويبوحون بكل ما يعتمل في دواخلهم، نكون قد وقفنا على بداية الطريق الصحيح الحق.
كلنا مسؤول ومما لا شك فيه أن لكل منا أخطاؤه، وهذا ما يؤكده مبدأ المدونة الثالث: لا غالب ولا مغلوب. أي أن الشعب السوري وفقط الشعب السوري هو الخاسر الوحيد والقابض على الجمر لوقوعه بين براثن جهات متقاتلة أيا كانت مسمياتها. عندما نعترف بذلك ونتمكن من تجاوزه نكون قد وصلنا للمحطة التالية - المبدأين الرابع والخامس. من وجهة نظري، فإني اراهما مرتبطان كل الارتباط ببعضهما الأخر، مما يعني أننا عندما نعترف بأن لكل منا أخطاؤه بشكل أو بآخر يقودنا ذلك إلى المحاسبة، المحاسبة دون حقد ودون ثأر، المحاسبة لنصل إلى سوريتنا كسوريين من دم واحد. وهنا يأتي المبدأ السادس: مبدأ جبر الضرر، أو لنقول محاولة جبر الضرر بكل أشكاله، بدءا بالمعنوي منها دماء االسوريين الطاهرة التي أزهقت، وليس انتهاء بالأضرار المادية الأخرى بكل أشكالها.
بعد ذلك نصل الى المبدأ السابع: متابعة الملف الإنساني. ولن أتصف بالأنانية إن تجرأت وقلت أن هذا المبدأ يحظى باهتمامي الخاص مع بقية أعضاء المدونة لما للإنسان عامة والطفل بشكل خاص بوصفه اللبنة الأولى والأكثر أهمية لبناء سوريا كبلد معافى. ولأن الويلات التي ألمت بالإنسان السوري ويلات ليست بالقليلة، ولا اعرف إن كنت اظلم الشعوب الاخرى التي عانت إذا قلت أن ويلاتنا السورية لم تشهدها شعوب أخرى في التاريخ المعاصر على أقل تقدير. من كل ما سبق ذكره، لم نلبث نحاول كسوريين وكأعضاء مجلس مدونة سلوك ان نبني عيشا سوريا مشتركا بكل ما يتوفر من أدوات. فنحن ندعم المدونة وتطبيقها كلبنة مهمة جدا ونحاول ايصالها إلى كل شرائح المجتمع السوري من خلال متابعتنا ومحاولاتنا ألا نوفر جهدا سواء من خلال إصدار البيانات اللازمة في الأوقات المناسبة، او الدعم المطلق لملف المتعقلين والمغيبين قهرا وقسرا، وليس انتهاء بمحاولاتنا التي لاتكل ولاتمل كل من مكانه وحسب إمكانياته بدعم مصابي الحرب وأسر الضحايا.
علاوة على كل ذلك، سأبرهن هنا على أهمية ودقة وصحة المبدأ الثامن، وهو مبدأ الهوية التنوعية للمجتمع السوري من خلال حادثة حدثت معي شخصيا قبل ما يزيد عن عشرين عاما في يومي الأول في السكن الجامعي في المدينة الجامعية في دمشق. اذ كنت قد استلمت غرفتي الغرفة رقم ١٤ في الوحدة السادسة. هناك، وبينما كنت متجهة الى الغرفة ظهرت أمامي فجأة فتاة لن أنسى شكلها واسمها ماحييت وأمطرتني برشقة من الأسئلة المعتادة والتي كنت قد هيأت نفسي لها في مثل هذا اليوم، باستثناء السؤال الثالث الذي جعلني أقف دون أن أنبس ببنت شفة:
هل انت في السنة الاولى؟ جوابي كان نعم.
من اين انت؟ من السلمية.
هل انت سمعولية؟!؟!
قلت لا أعرف، ولكنني أعدك عندما أسافر الخميس القادم سأسأل أبي وأحمل لك الجواب. لم أبالغ بحرف سردته لكم، اذ ان هذا ما حدث معي بالحرف الواحد. لله دركم أيها السوريين؛ فنحن شعب متعايش من آلاف السنين مع بعضنا البعض بكل ود ومحبة وسلام، انا شخصيا لم أشهد قبل ٢٠١١ شيئا مما حصل بعده. وهذا ما يصل بي أن أقول بأننا نحن السوريون خليط قد لايكون متجانسا قوميا ودينيا، ولكنه متجانس سوريا، نعم هو كذلك. وهذا ما يفسر المبدأ التاسع بعدم تسييس الانتماء السوري.
ما لايمكن لأحد التعامي عنه أن حضارة سوريا وتراثها الغني جدا بكل أشكال الحضارات التي يزيد عمرها عن آلاف السنين قد تم التأكيد عليه في المبدأ العاشر، والذي يؤكد على جماعية التراث السوري الذي يشمل كافة الحضارات التي توالت ولاتزال تعيش على الأرض السورية. وأقول هنا أن من حق هذه الحضارات علينا ليس فقط الحفاظ على هذا الموزاييك الذي يشكل الهوية السورية ويرتبط بها ارتباطا عميقا، بل توريثه للأجيال القادمة بشتى الوسائل الممكنة لنزرع حب سوريا في قلوب هذه الأجيال. كم أتمنى أن يكون بإمكاننا تحقيق المبدأ الحادي عشر، وهو المساواة بين السوريين وحماية حرياتهم. هذا المبدأ لايقل أهمية عن المبدأ الاول وهو وحدة الأراضي السورية، والذي أكدت وأعيد التأكيد مشددة على أهمية هذين المبدأين رغم تباعدهما شكلا في الوثيقة بين الرقمين 1 و 11، إلا أنهما بهذا البعد يشكلان صنوان احتضان لكل المبادئ التي تضمنتها المدونة، حضن أشبه بحضن الأبوين الأم والأب. مبدأ المساواة هذا هام وهام جدا باعتباره سنة الحياة، لأن الله سبحانه وتعالى خلقنا سواسية متساويين بصفاتنا البشرية. ومنه، فحضن الوالدين الواسع الشاسع، وسوريا هنا هي الاب والام، يحتم على هذين الوالدين أن يتعاملا مع أولادهما كافة، 23 مليون سورية وسوري، بالطريقة ذاتها وعلى قدم المساواة، اذ أنهم أبناء جلدتهم، وأبناء أرواحهم في آن معا.