إن القارئ والمدرك لعمق الأزمة السورية لا يمكن أن ينكر الصراع الإجتماعي الذي أرخى بظلاله على مجريات الأزمة. فالمجتمع السوري ينقسم إلى حضري وريفي بينهما الكثير من التفاوت في كافة المجالات. يضاف إلى ذلك التنوع الطائفي والاثني بينهم، ما ساهم إضافة إلى التقسيم الحضري الريفي على مدى الواقع السوري في توسيع الهوة بين أفراد المجتمع، والتي وظفت في أماكن كثيرة في المقتلة السورية.

لذلك لا يمكن القول، كما يزعم الكثيرون، بأن الأزمة السورية هي ضمن نظرية المؤامرة والتدخل الخارجي وتعدد اللاعبين الاقليميين والدوليين في مجرياتها فقط، وإنما برز إلى السطح نزاع الهويات بشكل واضح، وهذه الهويات استقوت بالمتدخلين الذين أججوا حجم الصراع وساهموا في ذهابه إلى أماكن لا يمكن العودة منها ببساطة.

وأخطر نزاع هوياتي حالياً على الإقليم السوري هو النزاع الكياني بين مكونات الجزيرة السورية وشرق الفرات، حيث يصطدم الوجود الكردي مع الوجود العربي، والنزعة الانفصالية لدى بعض الأكراد المقيمين في تلك الجغرافيا المتنوعة مع مصالح عدة دول ضمن المربع السوري التركي العراقي الإيراني. على أن مسألة الدولة الكردية وإشكالية إقامتها ضمن هذا المربع تعود إلى حقبة الحرب العالمية الأولى والاتفاقيات التي أنهت تلك الحرب. إلا أنها أضافت تعقيدا جديدا للازمة السورية وساهمت، مثلها مثل الأزمات المناطقية الأخرى على الإقليم السوري، في إدخالها في نفق طويل إضافي. ما يلاحظ في هذا المضمار خصوصاً التأزم في العلاقة بين الأتراك والإيرانيين من جهة والأكراد في هذه المنطقة من جهة أخرى. وهذا ينطبق على الحالة العراقية المتمثلة بإقليم كردستان العراق، كما في الحالة السورية، إضافة طبعاً إلى وجود الأكراد في كلا الدولتين. من هنا يمكن القول على التوازي مع ذلك بأن الأزمة السورية جاءت لتكمل فصول هذا الصراع الوجودي الخاص بالأكراد.

فإذا أخذنا ما يجري في الشمال الشرقي السوري كمثال، نرى بأن أخطر ما تتعرض له سوريا اليوم هو استهداف وجود الدولة ووحدة أراضيها. فهل يتكرر سيناريو سايكس بيكو بشكل آخر، حيث سيتم اقتطاع أجزاء عدة من الإقليم السوري من خلال إعادة ديناميات التقسيم بحلة جديدة ضمن رؤية الضالعين المتعددين في الصراع السوري الطويل، والذي ما زال بعيداً كل البعد عن مخاض الحل المستدام.  

إن سوريا اليوم وبعد مضي أكثر من عقد على بداية الأزمة بحاجة إلى عقد اجتماعي فريد يؤسس منطق الإصلاح السياسي والاجتماعي والثقافي، ويقيم دولة القانون والعدالة والمواطنة، ما سينهي صراع الهويات الذي نتحدث عنه. من هنا، فإن المطلع على وثيقة مدونة السلوك لعيش سوري مشترك ببنودها الإحدى عشر، والتي أزعم بأن السوريين جميعا سيتوافقون عليها بما ذهبت إليه في مبادئها ومنطلقاتها حول آلية لحل الأزمة السورية ضمن البيت السوري، يرى فيها دعوة إلى إقامة المصالحة الوطنية الشاملة بين مختلف الهويات والإثنيات المكونة للنسيج السوري العام.

وبناء عليه فقد حرصت المدونة ضمن رؤيتها الشاملة على أن يكون بندها الأول والرئيسي هو الحفاظ على وحدة الأرض السورية، ومن ثم المكاشفة والاعتراف، ومن ثم إقامة العدالة والقانون من خلال مبدأ المحاسبة لا الثأر والحفاظ على الهوية التنوعية وخصوصيتها لكل مكون، بما يدعم ويعزز الثقة بين الدولة والمجتمع والأفراد، كما يضمن التوازن بين حق الدولة والمواطنة الفاعلة ضمن هذه الأطر. كل هذا، إن تم وضعه موضع التنفيذ، سيؤسس لوعي جمعي جديد يسقط مذهب الخلاف الذي عنون كثير من مجريات الأحداث وطبعها بالطابع الطائفي. إننا اليوم أمام تحديات كثيرة تتمثل في إعادة انتاج ثقافة الوعي لمفاهيم التعايش، وإعادة دمج المكونات السورية والهويات ضمن مفهوم الدولة الواحدة، والتي تقوم على محو النزاع الطبقي والطائفي والاثني من خلال تعزيز منطق المواطنة الحقيقية ضمن ثوابت يضعها دستور عصري يكفل حقوق الجميع، والذي يمثل أقصى أهداف وأحلام مدونة السلوك لعيش سوري مشترك والسوريين جميعاً على حد سواء.

أعضاء مجلس المدونة السورية © ©

2023.01.0909.01.2023