لا معدى عن التأكيد بداية بأن أي حديث عن النسبية في أي مجال أو مقام هو حديث إشكالي يحمل بذور خلاف عقائدي. فالأخذ والرد، بشكل عام، يقوم على فكرة النظرية، أو التوصيف، أو الرأي، أو الفرضية وما يناقض هذه المفاهيم على طرف نقيض. أما النسبية بحرفيّتها وفحواها فتقوم على نفي وجود أو نفي أحادية وجود تلك المفاهيم. فالتمسك بالنسبية لا يعني محاولة دحض الحجج التي تقوم عليها النظرية، ولكن قبول فكرة تعدد النظريات، لابل أحياناً عدم القبول بوجود نظرية أو فرضية بالأصل. وهذا الموضوع هو أكثر تعقيداً عندما يتعلق الأمر بشأن سياسي أو اجتماعي أو ديني، أو عندما يرتبط بحقول البحث العلمي المتعلقة بالعلوم الإنسانية بشكل عام. فكل ف رد يعتقد بأنه على صواب والآخرين على خطأ عندما يرتبط الأمر بهذه المجالات، فالقناعة بالرأي الذاتي والمفهوم الشخصي هنا هي أساس التفكير ومحوره.

 

وإذا خصصنا الموضوع، فما يمكن الجزم به بخصوص المسألة السورية، بأن مجرد طرح مسألة النسبية غير مقبول في العديد من أوساط المجتمع السوري المعارض والموالي، إذا قبلنا بهذا التقسيم على سبيل المجاز هنا. وبما أن الحديث في هذا المقام حول النسبية، فإن ما تقوم عليه تكون فكرتها الأساسية المرتبطة بالمسألة السورية هي: تقبّل المعارض والموالي وحججهما. على أن هذا ليس غرضاً بحد ذاته، بل وسيلة للحث على نوع من التواصل بين المعسكرين ودعوة لكل مرء بالتفكير في نظريته وفرضيته بخصوص الأزمة السورية، من داخل الفرضية أو من خارجها. والنداء هنا ليس نداء لتغيير المواقف وإنما نداء لقبول نسبية الموقف الذاتي ونسبية الموقف الآخر. وحتى إذا لم يكن المرء قادراً على تقبل فكرة نسبية فرضيته وفرضية الآخر، فالمهم أن يتم تقبل نسبية أو جدلية خصائص الموقف أو أسسه، سواء كان الموقف الذاتي أو موقف الآخر.

 

لعل مدونة السلوك بمبادئها الإحدى عشر، وعمل مجلسها، يمثلان طريقة من طرق استخدام النسبية في إطار البحث عن توافقات معينة تصلح كقواعد اتفاقية للبدء في حل الأزمة السورية. فالنقاش حول المدونة انطلق من فكرة اختلاف آراء الأشخاص الجالسين على الطاولة وتباين مواقفهم وطروحاتهم والفرضيات التي يؤسسون عليها مواقفهم من الأزمة السورية. مما يجب الإشارة إليه في هذا المقام بأنه لم تتم أية محاولة في اجتماعات مجلس المدونة لتوحيد الآراء أو تقريبها، وإنما تم إتاحة المجال للجميع لإبداء رأيه وتوضيح أسبابه. والغرض من ذلك تمثل تماماً في إظهار نسبية جميع الآراء مقارنة مع كلية الأزمة السورية التي أصابت جميع السوريين. وهذا ما عبرت عنه المدونة بالاعتراف الجماعي بالحالة السورية من خلال مبدأ المكاشفة والاعتراف، إذ يتمثل أحد أهم أهداف هذا المبدأ في امتصاص الاحتقان المجتمعي من خلال وضع الآراء المختلفة في سياق نسبي واحد.

 

من واقع الآراء الصريحة التي تم تبادلها بين المجتمعين، انطلق البحث في الآراء المختلفة عن المفاهيم المشتركة التي يمكن أن يتوافق عليها الجميع ليس فقط لتناسبها مع الحالة السورية، بل لأنها أيضاً يمكن تظهر نسبية جميع المعادلات المرتبطة بالحالة السورية. فالمدونة مثلاً قد نصت في بندها الأول على وحدة الأراضي السورية بشكل مطلق، ولكنها في نفس الوقت لم تتطرق إلى مسألة تحديد شكل الدولة أهو مركزي أو اتحادي أو لامركزي، والذي يناقش حاليا في الكثير من الأوساط، وإنما تركته لمعادلات الحل السياسي القادم. كما أنها نصت في مبدئها الثالث على أنه لا يوجد منتصر في الحرب السورية. وهذا ما يعني بشكل أو بآخر بأن أي نصر عسكري هو مسألة نسبية لا يمكن التعويل عليها، إذ أن انتصار السوري على السوري بالأساس هي فكرة مرفوضة جملة وتفصيلاً، كما أن الإشكاليات التي ترتبط بأي نصر عسكري والمتعلقة بالبنى التحتية وأحوال الناس تطغى على جميع اعتبارات ومفاهيم النصر العسكري.

 

في نفس الإطار يمكن أن نفهم المبدأ الرابع، والذي يؤكد على أن جميع المشاركين في الأعمال القتالية قد قاموا بجرائم بحق الشعب السوري. صحيح بأنه مبدأ عام، ولكنه يؤكد في نفس الوقت نسبية أي موقف يمكن أن يبرر أي عمل إجرامي بحق أي سوري. وهذا يرتبط بشكل وثيق بالدعوى إلى المحاسبة الشخصية في المبدأ الخامس، والذي يهدف أيضاً إلى إظهار النسبية في مجرد التفكير بالانتقام من مجموعات بشرية معينة لانتماء أشخاص معينين في مواقع معينة، وبتحميل تلك المجموعات، ولو بالإشارة غير المباشرة، وزر ما قام به أي فرد. كما أن نسبية مفاهيم الأكثرية والأقلية من أية ناحية من النواحي الدينية أو المذهبية أو العرقية ودورها في المجتمع هي مسألة أظهرها المبدأ الثامن من خلال تأكيده على الهوية التنوّعية ومنعه لأية محاولة لاحتكار الحياة الثقافية أو السياسية أو الاجتماعية من قبل أية جماعة. هذه المسألة ترتبط بشكل جوهري بمنع بناء السياسة على أساس الانتماء لأية جماعة قومية أو دينية أو مذهبية، وهو ما نص عليه المبدأ التاسع بشكل واضح.

 

بغض النظر عن الشرح التفصيلي لكل مبدأ من مبادئ المدونة ومحاولة التعمق فيه، إذ أن مكان الشروح التفصيلية ليس في هذه العجالة، فإن الأمثلة التي ذكرت من المدونة إن دلت على شيء فإنما تدل على إمكانية التوصل إلى تفاهمات بين السوريين مهما اختلفت مواقفهم من الأزمة ومهما تعددت انتماءاتهم السياسية والعقائدية والاجتماعية. نقطة الانطلاق الأكثر أهمية في هذا المقام يجب أن تكون التحديد الدقيق للمواضيع وقبول مبدأ نسبية المواقف منها. وبالعودة إلى المدونة، سأصدقكم القول بأنها لم تكن لترا النور لو استمرت نقاشات الاجتماعات الأولى حول توصيف ما حدث في 2011، والتساؤل فيما إذا كان ثورة أو لا. عندما اقتنع الجميع بفكرة "سمها ما شئت، ولكن دعنا نحدد المسائل الجوهرية في الأزمة ونحاول أن نجد توافقات حولها"، لم يحتاجوا لوقت طويل لتبني المبادئ الإحدى عشر والتصديق عليها. لعل في طريقة التفكير هذه مثالاً يحتذى به لمن يتفاوضون في جينيف، لعلهم يتبنون نسبية المواقف ويوجهوا عقولهم وقلوبهم نحو مفهوم مطلب واحد: نريد حلاً!

الدكتور ناصيف نعيم ©

2021.08.1616.08.2021