بهذه البساطة، هذا العنوان المؤلف من كلمتين فقط، بما تحملانه من دلالة لغوية وأبعاد فلسفية ومفاهيم اجتماعية وسياسية وثقافية، يفتح لنا فضاءات التاريخ وأبواب الجغرافيا والثقافة والسياسة. وهذا ما يثير بدوره عددا من الاسئلة المؤرقة، من قبيل: من نحن؟ ... وماذا نريد؟ ... ولماذا تأخرنا عن الأمم الأخرى؟ والملاحظ هنا بأنه لا يمكن لأحد أن يجيب على هذه الاسئلة اجابة ناجزة. فهل هويتنا قديمة كالبابلية والاشورية والفينيقية والفرعونية والقرطاجية، ام أنها لغوية قومية كالعرب والفرس والترك والكورد، أم دينية كالاسلام واليهودية والمسيحية وغيرها، أم هوية حديثة تفرضها الحدود الجغرافية التي صنعها المحتلون.

 

في الربع الاول من القرن العشرين سقطت الخلافة العثمانية. ومع سقوطها فقد رعاياها المسلمون وغيرهم آخر هوية سياسية موحدة تجمعهم وأصبحوا بلا وزن سياسي. وأخذوا يبحثون عن هوية بديلة في متاهات الجغرافية والتاريخ، إذ تصارعت في حياتهم الانتماءات والروابط الدينية والقومية والوطنية والمحلية، وترافقت بجدال لا ينتهي منع اندماجهم تحت مظلة واحدة. كما أنه واخيرا قد ظهر مفهوم الهوية الملتبس على شكل دولة بالمفهوم الحديث للحكم.

 

في سوريا لعبت الجغرافية السورية دورا رئيساً في تنوع الحضارات البشرية التي عاشت على الارض السورية منذ آلاف السنين، حيث تحتل سوريا الجناح الغربي للهلال الخصيب، عدا عن كونها من أهم محطات طريق الحرير القديم وصلة وصل بين القارات الثلاث: اسيا، أوروبا، افريقيا. وعليه، كان لهذه الجغرافيا الدور إذاً الدور الابرز في تنوع الإرث الحضاري الانساني السوري، والذي يمتد قرابة ثمانية آلاف عام قبل الميلاد، فيما تعتبر العاصمة دمشق أقدم عاصمة ماتزال مأهولة في العالم. في هذا السياق، لا يسعنا الاسهاب في الحديث عن الهوية الانسانية الغنية حضاريا وثقافيا لهذه البقعة من الارض، وإنما سنحاول تسليط الضوء على ضبابية الهوية الوطنية السورية كمشروع غير مكتمل بفعل ظروف داخلية وخارجية.

 

فبعد نهاية الحرب العالمية الاولى وتفكك الدولة العثمانية، تشكلت دول الشرق الاوسط بحدودها التقليدية، ومنها الدولة السورية. وخلال المرحلة الأخيرة من الحكم العثماني منذ عام 1840 وحتى  الحرب العالمية الأولى عام 1914 عرفت بلاد الشام (سوريا الطبيعية) ازدهارا ثقافيا وسياسيا في المدن الكبرى، وبعض المدن المتوسطة مثل حمص، مشكلة بذلك أحد أجنحة النهضة العربية. من جهتها أدت تلك النهضة للمطالبة بإصلاحات إدارية واقتصادية دون ان تلقى تجاوبا من قبل الدولة العثمانية، ما أدى الى اتساع الفجوة بين السلطة والشعب، وخاصة بعد مجاعة 1915 والتجنيد الإجباري خلال الحرب العالمية الأولى، وهو ما أدى لإنطلاق الثورة العربية الكبرى عام 1916.

 

في عام 1918 اجتمع المؤتمر السوري العام وأعلن الاستقلال وقيام المملكة السورية عام 1920. غير أن الحلفاء رفضوا الاعتراف بالكيان الجديد، وقامت فرنسا بحلّه بعد معركة ميسلون عام 1920، لتبدأ مرحلة الانتداب الفرنسي بتقسيم أراضي المملكة التي تشكلت إلى عشرة كيانات حملت طابعا طائفيا. على أنه بفعل النضال والرفض الشعبي الواسع اتحدت خمس منها لتشكيل سوريا الحالية. وفي عام 1925 اندلعت الثورة السورية الكبرى، وجرت بعدها انتخابات الجمعية الدستورية التي وضعت دستور الجمهورية السورية عام 1930، كما انتخبت بعدها بعامين محمد علي العابد كأول رئيس للجمهورية.

 

في السنوات اللاحقة استمر النضال السوري ضد الانتداب، هذا النضال الذي شمل الإضراب الستيني، ومعاهدة 1936، ووصول الكتلة الوطنية للحكم برئاسة هاشم الأتاسي، واحتجاجات 1939 بعد فصل لواء اسكندرون، واحتجاجات 1941 ضد الأزمة الاقتصادية التي حصلت خلال حكم بهيج الخطيب أثناء الحرب العالمية الثانية، التي تمكن الحلفاء فيها من السيطرة على سوريا بعد معركة دمشق 1941، وسقوط حكومة فيشي. وقد تم تنظيم انتخابات عام 1943 في سوريا، حيث انتخب شكري القوتلي رئيساً. وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية، اندلعت انتفاضة الاستقلال، التي أفضت لنيل البلاد استقلالها الكامل عام 1946.

 

خلال فترة ما قبل الاستقلال التام ظل البعد الاسلامي حاضرا في الطروحات المتعلقة بهوية الاقليم السوري، بالاضافة الى البعدين القومي العربي واليساري. واستمر ذلك في ادبيات الجمعيات والاحزاب السياسية السورية التي تصدرت المشهد السياسي  حتى وصول اللجنة العسكرية لحزب البعث إلى السلطة في عام 1963، حيث أن تلك الحقبة شهدت اولى بوادر تشكل الهوية الوطنية السورية. إذ برزت في تلك الفترة ثلاث قوى سياسية سورية متناقضة أيديولوجيا فيما بينها، وهي: التيار الاسلامي والتيار اليساري والتيار القومي، لكن الجميع لم يملك مشروعاً وطنياً سورياً واضحا بقدر ما يعتبرون هذه البقعة الجغرافية (سوريا) جسرا لعبور مشاريعهم العابرة للحدود.

 

ويمكن القول بأن التيار القومي العربي كان اقوى من التيارين اليساري والإسلامي، والذي ضم  ثلاث أطر سياسية رئيسية هي: حزب البعث العربي، الحزب الاشتراكي العربي وحركة القوميين العرب. بعد ذلك اندمج الحزبان الأول والثاني عام 1952 في حزب واحد أطلق عليه حزب البعث العربي الاشتراكي. وفي عام 1963 تمكن حزب البعث من الامساك بالسلطة وإقصاء جميع الكتل السياسية بما فيهم حلفاؤه. في هذا الظرف التاريخي من حياة سوريا تعرضت الهوية السورية الناشئة للتشوية من خلال أدبيات الحزب الحاكم التي ادعت تفوق هوية البعث على هوية الدولة السورية، وذلك بعد أن تم في عهده تغيير الدستور السوري الذي كانت الكثير من مواده تحمل رمزية كبيرة، لا سيما أنّها أُقرّت كنتيجة لمقارعة الاستعمار الفرنسي.

 

بناء على ذلك، وبعد هذا الاستعراض البسيط يمكن القول أن الضامن الأكبر للهوية الوطنية، هي الديمقراطية وسيادة مبدأ المواطنة والعدالة والمساواة وانعدام التمييز وتكافؤ الفرص وصون الحقوق وسيادة القانون. في حين ان انتهاك المواطنة يزعزع الانتماء والشعور بالهوية الوطنية، لتحل محلها هوياتٌ فرعية ما دون الوطنية بديلاً قسريا واقعيا عن الهوية الوطنية. إذ أن الهوية الوطنية ترتبط ارتباطا وثيقا بمفهوم الدولة كنظام حديث للحكم يسمح للهوية الوطنية بالتفاعل مع الهوية الشخصية أو العائلية أو القبلية أو العشائرية وصولا إلى القومية، مرورا بالعصبيات التي تقوم على انتماءات مناطقية ما دون الدولة الحديثة، أو تلك الانتماءات ذات البعد الديني، المذهبي والعقائدي، وصولا لانتماءات أيديولوجية وسياسية ليس بالضرورة أن تتنافس مع الهوية الوطنية.

 

إن اختزال الهوية الوطنية في انتماء ديني او عرقي او سياسي او مناطقي ما هو الا مساهمة سخية عمياء في تغييب الهوية الوطنية. كما أن أي استخدام لمؤسسات الدولة وخاصة العسكرية في مواجهة اي تحرك شعبي مهما كانت مبرراتها سيؤدي حتما الى انفراط عقد الهوية الوطنية وفك ارتباط الشعب بالدولة كليا او جزئيا، والارتداد الى انتماءات وهويات بدائية ما دون الوطنية طلبا للحماية. كمان ان اهم عوائق تطور الهوية الوطنية هو الخلط بين الهوية الوطنية من جهة وبين مجموعة القيم الحزبية والايديولوجية من جهة أخرى، او ارتهان الهوية الوطنية برؤية الحاكم وشخصه، خاصة في الدول التي تحكمها أنظمة شمولية تستخدم الشعبوية خدمة لمصالحها.

 

في وطننا الحبيب سوريا، ساهم في زعزعة الارتباط بالهوية السورية سيطرة أربع قوى إقليمية ودولية (روسيا وإيران وتركيا والولايات المتحدة الأمريكية) على الارض السورية، فبات بعض السوريون يتعاملون بالليرة التركية وآخرون بالدولار ومن يقع تحت سلطة النظام بالليرة السورية. كما اختلفت مناهج تعليم وتباينت مفاهيم الوطنية، وأصبح لها تفسيرات مختلفة حسب السلطة التي يتبعون لها. واختلفت كذلك الأولويات من حيث ترتيبها وأهميتها، كذلك بالنسبة للسوريين الذين لجأوا إلى دول الجوار وإلى أوروبا وانخراطوا في تعقيدات الاندماج في المجتمعات المضيفة وتعلم اللغات، وولادة جيل كامل خارج حدود الوطن لايعرف عن سوريا سوى ما يسمعه من ذويه او من الاعلام.

 

واليوم بعد سنوات الحرب الطويلة والمأساوية في سوريا، وماتبعها من التهتك الاجتماعي والانهيار الاقتصادي والاستقطاب السياسي العنيف، فقد تداعت الهوية السورية وتآكلت على أعتاب الانتماءات القومية والعرقية والاثنية المتسترة برداء الاسلام والعروبة وغيرها. وهذا التدهور يتناسب طردا مع اطالة امد الحرب. ولن تعود للحياة الا بتضافر الجهود الصادقة لإرساء عقد اجتماعي جديد يعيد التوازن للمجتمع والافراد، ويضمن حقوقهم السياسية والاقتصادية ويصون الكرامة الانسانية، ويجعل من سوريا وطنا نهائيا لجميع السوريين كأمة ناجزة.

 

أخيرا، فإن البحث عن الهوية الوطنية لا ينبع من الرغبة في إخضاع الاخر والسيطرة عليه او ادعاء التفوق، بل هو التأكيد على المساواة بين البشر في بقعة جغرافية واحدة تحت مظلة الدولة الواحدة. كما أنها إرادة حرة نحو وطن واحد يجمعهم في مصير واحد ومصالح مشتركة، ما يتطلب تحرير المجتمع السوري كله من الاستبداد على أساس دولة المواطنة التي تمنح المواطنين حقوقاً كاملة ومتساوية.‏

رثعان العبد الجادر ©

2022.08.1111.08.2022