صراع أقطاب.. أم "فوضى"؟ 

 يتكئ العديد من المحللين هذه الأيام، في تفسير الظواهر السياسية على عودة صراع الأقطاب على النظام العالمي، في محاولة لكسر أحادية القطب الأمريكي، وإعادة خلق توازن في النظام الدولي..
 و لكن هل يختصر هذا التفسير مشهدية التخبط العالمي، وتسخين الساحات الرخوة في أكثر من مكان أم أنها حالة فوضى وسيولة سياسية ومأزق، وصلت إليه نظرية "العولمة"؟

"دعه يعمل.. دعه يمر"..

بدأت فلسفة العولمة بالتشكل تحت سقف هذا العنوان، الذي أطلقه الفيلسوف والباحث الاسكتلندي "آدم سميث"، بهدف تحرير التعاملات والعلاقات الاقتصادية على أوسع نطاق، بحيث تصبح حركة الأسواق حرة تلقائية، دون تدخل موجه من الدولة، إلا في أضيق الحدود، مع منح امتياز احتكاري للسلعة الأجنبية  المُنتجة، بأقل كلفة من السلعة المحلية.

وبتحليله هذا استثنى "سميث" الدول التي لا تمتلك امتيازاً مطلقاً من التبادل التجاري العالمي، فأتى الباحث الاقتصادي البريطاني "دافيد ريكاردو"، ووضع نظرية أكثر تفاؤلاً، تقوم على الامتياز النسبي، بحيث لا تُستثنى أي دولة من التبادل الحر. 

من تلك النظريات انطلق ما يُعرف بنظام العولمة، وفكرة القرية الكونية، والذي تبنًتهُ أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية، التي أنهت نظام المستعمرات، وفتحت مجال التبادل الحر في جميع الأسواق العالمية. 

ظنًت أمريكا  في ذلك الوقت، وهي البلد الصناعي الأكثر تقدماً وتطوراً، أن العولمة تسير في اتجاه واحد، سيجعل كل جبايات العالم تصب في الخزائن الأمريكية، لكن صعود المارد الاقتصادي الأصفر، وإغراقه الأسواق العالمية بمنتجات رخيصة الثمن ولا يمكن منافستها، لم يكن في حسبانها، وهذا المأزق هو ما يتوجب التمعن به؛ لمحاولة فهم وتحليل التخبط في النظام الدولي. 

في هوامش الأدب السياسي مقولات مختصرة ومسطحة؛ لكنها تكون في بعض الأحيان أكثر تعبيراً من المطولات والتحليلات، وإحدى تلك المقولات التي كانت تُسعد الأمريكي وتبرز الأهمية والهيمنة الأمريكية: 

"إذا عَطَسَ سيد البيت الأبيض.. أُصيبَ العالم بالزكام".

لكن هذا لم يعد يحدث الآن، وهذا أكثر ما يقلق صانع السياسة الأمريكي. 

الوحيد الذي أعلنها صراحةً، هو الرئيس ترامب القادم من عالم الأسواق والأعمال، لا من عالم النخب السياسية، إذ قال:"دكان العولمة تسبب في إفلاس أمريكا العظيمة.. لذلك سأعلن موته وسأدفنه وسأدفنكم معه إذا اقتضى الأمر.. وسأنهي فلسفة دعه يعمل.. دعه يمر.. لن تمروا بعد اليوم.. دون أن تدفعوا للخزانة الأمريكية". 

هذا خلاصة ما قاله ترامب، وإن كان هذا القول مقولباً في إطار الكاريكاتير السياسي.. 

لكنً الصين رفضت الحصة المحددة لها في السوق العالمية، وطالبت بحصة أكبر، واتسم آخر اجتماع رفيع المستوى بين الجانبين في مدينة أنكوراج في ولاية ألاسكا 19\ 3 \ 2021 بنبرة حادة، وبتبادل للاتهامات حول كسر القواعد التي تحافظ على الاستقرار العالمي. 

كانت فكرة انضمام الصين إلى السوق العالمية، فكرة أمريكية حملها الوزير "كيسنجر" إلى بكين في نهاية السبعينات من القرن الماضي، وكان هذا ضمن التكتيك السياسي للحرب الباردة بين المعسكر الغربي والشرقي، وقد نجح ذلك بالفعل؛  لكن الأمريكي لم يخطر بباله أن يتحول "كارل ماركس" في بكين إلى "آدم سميث" بلحمه و شحمه، مرتدياً بدلة "كارل ماركس".

بمعنى آخر: دخلت الصين إلى الأسواق العالمية الليبرالية الحرة التي تديريها أمريكا من الأبواب والنوافذ، وأغلقت أبوابها على الليبرالية.

لقد تذوقت الصين طعم "العسل الليبيرالي وأدمنه، وهي الآن تريد المزيد والمزيد. 

تبدو روسيا خارج اللعبة فيما سبق.. وهي كذلك إلى حد ما. 

سأعود أيضاً إلى المقولات في هوامش الأدب السياسي، والتي تحدد المكانة العالمية للاتحاد الروسي: 

-       روسيا دولة كبرى بسياسات صغرى.

-       روسيا آلات كبيرة.. لكنها لا تعمل جيداً.

-       روسيا تملك إمكانية الرفض.. لكنها لا تمتلك أدوات الفرض. 

ومع ذلك كان لابدً من تحييد روسيا بشكل نهائي في المواجهة مع الصين، فتمَّ توريطها في المستنقع الأوكراني، الذي تحول إلى كابوس روسي طويل؛ من أجل التفرغ للمواجهة مع الصين.

أمريكا كأي يابسة مسكونة في العالم، تخضع لقوانين المد والجزر، وكأي حالة سياسية تحمل وتحتمل التناقضات، التي يمكن استغلالها والنفاذ  منها؛ لتحقيق أهداف في المرمى الأمريكي؛ لكن من حظ هذه الأمريكا أن خصومها ومناوئيها خلال المئة عام المنصرمة، كانوا يسجلون أهدافاً في المرمى الخاطىء، وكل تلك التجارب السياسية، أسفرت عن أنظمة شمولية فاسدة إلى درجة التعفن الذاتي، و قمعت شعوبها، وأفقرتها بذريعة المعركة مع أمريكا.  

هل تتراجع بكين خطوة إلى الوراء، أم أنها ستواجه الحلف الأمريكي الغربي، والذي يعاني من ضغوط اقتصادية غير مسبوقة؟ 

هل سنشهد براغماتية سياسية لدى طرفي الصراع، وعودة النظام العالمي إلى القواعد، أم أن مأزومية كل الأطراف، و خاصةً حالة السيولة السياسية في الداخل الأمريكي  ستقود العالم إلى الفوضى؟.

لا أملك الإجابة الحتمية على السؤال، وإن كنت أُرجح أن تستعمل الصين "أدوات التاجر" المرنة، بعكس ما فعله "القيصر الروسي"، الذي استرجع أدوات الأيديولوجيا الصلبة والعمياء..  

ميشيل عرنوق ©

2023.06.1818.06.2023