قراءة في المبادئ _ متابعة

 

نجحت المدونة  في استلهام كثيرمن تجارب البلدان التي مرت بظروف مشابهة  للحالة السورية، مع التركيز على خصوصية الحرب السورية بكل ما فيها من تعقيد  وتفرد، وسنحاول تقديم بعض الإضاءة  على بقية مبادئ المدونة.

 

المبدأ السادس: جبر الضرر:

هذا المبدأ تم اعتماده بتاريخ وتجارب كثير من الدول كركيزة لبناء المستقبل، وركن أساسي في تطبيق العدالة الانتقالية، فهو وسيلة لبلسمة الجراح وتخفيف الاحتقان ومشاعر الكراهية والانتقام، وترسيخ مفهوم التسامح والمصالحة والثقة المجتمعية المتبادلة. ويتناول أيضاً المستقبل لضمان سلم أهلي مستدام.

 

ولكنه بالحالة السورية، يفترض شموله جوانب غير معهودة سابقاً، لأنها كانت حافلة بالفظائع من نهب وتخريب وتدمير طال البشر والحجر والشجر، ولا أعتقد أن العالم كله يمتلك تصور حقيقي لحجم الاضرار التي لحقت بسوريا والسوريين. ويندر وجود سوري لم تطاله بشكل أو بأخر هذه الخسارات، إنها أكبر وأفدح من أي تقديرات وضعت حتى اليوم وحتى أكثرها سوداوية.

 

وبالتالي فان هذا المبدأ يتضمن معالجة ملف ثقيل ومرهق لكل الأطراف، لكنه ضروري وحيوي لعلاج أزمة مستعصية ومعقدة ومركبة مثل الأزمة السورية. ويمكن اختصاره بقاعدة أن كل متضرر من الأحداث في سوريا يجب أن يلقى تعويضاً يتناسب مع طبيعة الضرر وحجمه ويساهم في إصلاحه. والوصول إلى ذلك عبر آليات مناسبة وصحيحة، وبالاستناد إلى مرجعيات قانونية دولية معترف بها.

 

ويسجل للمدونة أنها لم تنس أو تتناسى الضرر الذي أصاب السوريين بفترات ما قبل الأحداث التي وقعت منذ بداية 2011، من انتهاكات لحقوق ومصادرة ملكيات وغيرها.

وبالتأكيد إن تحقيق هذا المبدأ يحتاج إلى طاقات وإمكانيات هائلة هي غير متوفرة؛ وبالتالي تحتاج إلى تضافر الجهود والامكانيات الذاتية السورية بالداخل والخارج مع الجهود الإقليمية والدولية.

 

وبتطبيق هذا المبدأ، رغم صعوبته، يمكن تجاوز ومعالجة الكثير من النتائج الكارثية للأحداث، وتوفير ضمانات جدية لعدم تكرارها مستقبلاً.

 

المبدأ السابع: متابعة الملف الإنساني:

في هذا المبدأ تتابع المدونة معالجة آثار الحرب وفظائعها الكبيرة والخطيرة، وما تركته وستتركه من آثار وتداعيات قد تمتد لأجيال، وهو مبدأ يتكامل مع المبدأ السابق (جبر الضرر)، من حيث أهدافه وتموضعه ضمن سردية واحدة لتحقيق العدالة الانتقالية، ويشمل ما تعرض له الانسان السوري من انتهاكات وجرائم يرقى بعضها إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وتقارير المنظمات الدولية حافلة بأرقام مرعبة عن الضحايا من السوريين شهداء وجرحى ومعاقين ومعتقلين ومخطوفين ومفقودين.

 

وكل عنوان من هذه العناوين هو بذاته قضية انسانية كبيرة وموجعة، تتضمن الكثير مما يستوجب تعويضه ومعالجته ورعايته، بعملية ستمتد ربما لعشرات السنوات، وتستوجب توفير كل الظروف والامكانيات لذلك، لأنه مرتبط بالحياة والكرامة والذات الإنسانية التي تعرضت لأبشع الانتهاكات على يد مختلف الاطراف، من مسؤولية الدولة في سوريا المستقبل ومسؤولية مجتمعية مشتركة. 

 

وهنا أيضاً يسجل للمدونة إشارتها بأن هذا المبدأ يجب أن يشمل الحالات الإنسانية التي وقعت نتيجة الاحداث ما بعد آذار ٢٠١١، والحالات المشابهة قبل هذا التاريخ، وهذا مهم لأنها بهذا تساهم في علاج الجذور القديمة للأحداث.

 

المبدأ الثامن: الهوية التنوعية للمجتمع السوري:

((إن سوريا مجال ينبغي الاطلاع عليه لرؤية تعايش المجتمعات المتوازية دينياً وعرقياً فيه، ومراقبة التعاطي مع الهجرة منه واليه))

ملاحظة عميقة وملفتة للباحثة الألمانية كاتيا برينغمان، قد تعطينا احد المفاتيح المعرفية لفهم سوريا، المتنوعة المتعددة المختلفة والموحدة، ومعالجة أزمتها الوطنية الحالية ومشكلاتها المستقبلية.

 

إن أحد الخطوات الضرورية لذلك، هو الإعتراف بالتعددية السورية وجودياً ودستورياً وقانونياً، ثم ترجمة هذا الاعتراف بعقد مدني اجتماعي ودستوري جديد، يضمن المشاركة للجميع بشكل متساو ومتكافئ في إدارة الدولة المنبثقة عنه، بعيداً عن أي إقصاء أو تهميش لمكون أو مجموعة .

 

إن إحدى الإشكاليات التي أوصلت سوريا إلى أزمتها الوطنية الكبرى التي تعيشها حالياً، هو التناقض الذي عاشته لعقود بين الاعتراف الشكلاني من قبل السلطة القائمة والقوة السياسية المهيمنة، بتعددية المجتمع السوري والتهرب من ترجمة ذلك بالممارسة السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، من خلال فرض هوية أيديولوجية على أساس عرقي، ومحاولة فرض هذه الهوية على المجتمع السوري كله، وعدم مراعاة واحترام تعدديته، وبالتالي وصلنا إلى مجتمع متماسك ظاهرياً فقط، لأن تماسكه قائماً على أسس وعوامل غير حقيقية مرتبطة بالسلطة والاطار الايدولوجي الذي نمّطت المجتمع على قياسه، وحالة الإنكار التي عممتها لوجود أي مشاكل داخلية  بنيوية، كالمشكلة الطائفية او المشكلة العرقية (الكردية مثلاً)، وهو ما ظهر خلال الأحداث كشروخ عميقة في الجسد السوري يجب امتلاك الجرأة للاعتراف بها ومعالجتها.

 

إن المدونة تقول من خلال هذا المبدأ بوضوح، أن سوريا مجتمع تعددي متنوع، والعوامل المؤثرة والضرورية لبناء هوية وطنية سورية جامعة، موجودة وقائمة ويمكن ترجمتها بمشروع وطني جديد، لبناء دولة ومجتمع موحد ومتجانس على قاعدة التنوع والتعددية وهو ما تحتاجه سوريا المستقبل.

 

المبدأ التاسع: عدم تسيس الانتماء:

هذا المبدأ يتناسب تماماً مع خصوصية الحالة السورية، إذ يتشكل المجتمع السوري من مكونات مختلفة، قومية ودينية ومذهبية وعشائرية ومناطقية وقبلية.

 

وبالطبع من حق الإنسان وحسب القوانين والشرائع الدولية والإنسانية، أن ينتمي إلى إحدى هذه المكونات، وأن يعيش ويمارس انتماءه هذا، وإذا كان لديه إمكانية ولو نظرية على الأقل للانتقال من مكون ديني إلى أخر، فهو لايملك إمكانية الانتقال من كونه عربيا ليصبح كرديا أو أرمنيا مثلاً، فهذه الانتماءات تولد مع الانسان وتموت معه، ويمكن النظر إلى موضوع الانتماءات من زوايا متعددة ليكون الموضوع أوضح: 

 

أولاً: ليس هناك مكون مشكل من كتلة صلبة صماء، فكل المكونات فيها تنوع واتجاهات فكرية وسياسية متنوعة، ولا أحد يملك حق ادعاء التعبير عنها أو تمثيلها بالكامل.

 

ثانياً: إن الهوية السورية الجامعة لاتتعارض ولا ترفض أي من مكوناتها المجتمعية الطبيعية وتستطيع احتواءها، لكن لا تستطيع أي من الانتماءات القومية أو الدينية احتواء التعددية السورية الطبيعية والتعبير عنها.

 

ثالثاً: لقد تم سابقاً تسيس الانتماءات وفرضت هويات مسبقة الصنع على السوريين، ولم يعطوا الحق والحرية لتشكيل وعيهم الوطني الذاتي، وبالتالي فشلوا في إقامة بنيان متجانس وموحد في قلب تنوعه، ولهذا وصلنا إلى هذه المرحلة عالية الخطورة، حيث يهدد التنوع والتعدد الهوية السورية المؤدلجة المفروضة حالياً بدلاً من أن يكون عامل أمان واستقرار لها.

 

ومن هنا أهمية هذا المبدأ للحالة السورية الذي يقول: لايجوز أن تصبغ سوريا بصباغ قومي او ديني واحد، وانه يجب احترام تعددية سوريا وتنوعها، وإن الهوية الوطنية الجامعة هي التي تضمن حقوق المكونات كلها وتضمن وحدة الوطن ومستقبله.

أما الانتماء القومي أو الديني أو القبلي عندما يتم تسيسيه فسيصبح حتماً هوية قاتلة. وبالتالي نفهم أهمية وضرورة منع قيام أحزاب أو تجمعات سياسية على أساس عرقي أو ديني او طائفي أو قبلي او مناطقي.

 

المبدأ العاشر: جماعية التراث السوري:

الموقع الجغرافي المتميز لسوريا، وثقافة تقبل الآخر الأصيلة لدى السوريين.  شكلت عبر التاريخ  قطب جذب لجماعات متعددة من الناس، بعضهم غزاة مستوطنين، وبعضهم  شعوباً واقوام هربت من طغيان أو خطر تتعرض له في بلادها الأصلية، وكلهم جاؤوا يحملون معهم ثقافاتهم وإرثهم الحضاري ووضعوه على المائدة السورية المفتوحة والعامرة بالحضارات المتعاقبة، ورفدوا به التنوع المدهش الممتد لأكثر من سبعة ألاف عام من الإرث الحضاري ومن التاريخ الطويل، من التمازج والاختلاط الذي أنتج هذه الثقافة الخاصة والفريدة التي تتشارك  فيها ثمانية وثلاثون حضارة موثقة واكيدة الوجود حتى الآن، والتي تحولت إلى ملكية مشتركة لجميع السوريين وبالتالي الى مسؤولية كبرى مشتركة تقوم على احترام هذه الملكية، ومسؤولية الحفاظ عليها وحمايتها لأنها تدخل في صميم الهوية الوطنية السورية الجامعة.

 

إن التراث الحضاري السوري التعددي التراكمي، تعرض ويتعرض لأخطار هائلة، فقد عانى من تدمير ممنهج وتشويه متعمد خلال الحرب، لضرب الأساس الصلب لبناء هوية وطنية تجمع كل السوريين بمختلف مكوناتهم العرقية والدينية وحتى القبلية وغيرها، ناهيك عن السرقات المنظمة للآثار من قبل أفراد وعصابات ودول، فتقارير المنظمات الدولية مخيفة حول ذلك، إذ تقول أنه في منطقة الشمال السوري فقط، تم سرقة أكثر من عشرة آلاف موقع أثري، وأصبحت أخبار مصادرة أثار سوريّة، مهربة ومسروقة، خبر نقرأه يومياً.

 

إن الإرث الحضاري السوري، والتراث الجمعي السوري الذي يمكن البناء عليه لنهوض سوريا الجديدة في خطر جدي، والحفاظ عليه هو مسؤولية إنسانية وأخلاقية ووطنية لكل السوريين، وهذا ما تؤكد عليه المدونة في بندها العاشر. 

 

المبدأ الحادي عشر: مبدأ المساواة بين السوريين وحماية حرياتهم:

بهذا المبدأ تكمل المدونة رسم وتوضيح معالم سوريا المستقبل كما تراها ويطمح السوريون لها. إنها باختصار دولة المواطنة التي أكدت عليها المدونة في مقدمتها، والتي تنتج عن عقد اجتماعي جديد لابديل عنه، دولة يتساوى فيها السوريين جميعاً أمام القانون في الحقوق والواجبات.

دولة حديثة تواكب العصر تتسق مع مسيرته الحضارية، وتقدّس القيم الإنسانية وتحترم العلم والعلماء.    

دولة ديمقراطية يمكن الوصول إليها فقط عبر صناديق اقتراع نزيهة وشفافة تقوم على فصل السلطات. فيها أنظمة وقوانين ودستور وضعوا ليحترموا، وليتساوى الجميع أمامهم. دولة تحترم إنسانية مواطنيها ولا تعتبرهم مجرد رعايا، تحمي حقوقهم وكرامتهم ويعيشون فيها متمتعين بكل الحريات المنصوص عليها والمعترف بها في القوانين والشرائع الدولية، وخاصة الحقوق السياسية والمدنية والشخصية دون أي تمييز على اساس الجنس او العرق او الدين.

 

أ. سلمان شبيب رئيس الهيئة التأسيسية لحزب سوريا أولاً ©

2022.01.0404.01.2022