شكلت المدونة حالة سورية متميزة باعتبارها نتاج جهد مجتمعي شعبي ابتعد إلى حد ما عن المشاريع السياسية التي لم يكن ما قدمته على اختلاف تنوعاتها ومواقعها مشجعاً، ولم تعطي ما يمكن اعتباره إجابات وطنية مقنعة للكثير من التحديات والتساؤلات التي تحكم حاضر ومستقبل سوريا والسوريين. وهذا إغراء تستدرجك المدونة عبره للدخول إلى عالمها الذي تمنحه مبادئها الأحد عشر هويته، وتشكل بناءه الفكري الذي يؤمل أن يؤسس عليه مشروع وطني جديد يستجيب لهواجس السوريين الآنية والمستقبلية.

 

ولأنها تبحث عما يجمع ولا يفرق وعن لغة مشتركة للسوريين تعبر عن المصالح العليا لأغلبيتهم، فقد قدمت المبادئ بصياغات واقعية إلى حد كبير، وبشكل واضح مختصر. وعليه سنحاول فيما يلي أن نقدم قراءة لها:

 

المبدأ الأول: وحدة الاراضي السورية:

 

لاشك إنه الهاجس الأكبر والتحدي الأخطر الذي يواجه السوريين بغض النظر عن تموضعهم السياسي ومواقفهم ومواقعهم المختلفة. ويسجل للمدونة هنا استشعارها مبكرا للأهمية القصوى لهذا المبدأ لما له من أولوية حاسمة في بقاء سوريا وتحديد شكل تطورها المستقبلي. وقد أكدت تطورات المشهد السوري اللاحقة لصدور المدونة صوابية تصدر هذا المبدأ وأولويته بعد ازدياد المخاطر التي تهدد وحدة سوريا كنتيجة لغياب الحلول السياسية وانسداد الأفق أمامها وفشل كل المسارات بتحقيق اختراق حقيقي. كما لعبت الضغوط المختلفة التي يتعرض لها المجتمع السوري بتنوعاته المختلفة، إضافة إلى تفاقم التدخلات الإقليمية والدولية وتغول بعض الأطماع الإقليمية المعلنة بالأرض السورية، دوراً كبيراً في محاولة تكريس واقع تقسيمي على الارض السورية.

 

إن تأخر الحل السياسي وغياب تفاهمات دولية فاعلة حوله وانعدام حوار وطني سوري حقيقي وجاد للبحث عن مخرج إنقاذي يفاقم كل يوم أكثر المخاطر التي تحيق بوحدة الأراضي السورية ويجعل من التمسك بهذا المبدأ والعمل على تحقيقه مهمة وطنية وأخلاقية لكل السوريين وتحدي وجودي لهم لأنهم في حال الفشل لن يجدوا ما يتفقون أو يختلفون حوله وعليه. لقد أصبحت جميع القوى السياسية والمجتمعية السورية وحتى الدول والهيئات الدولية تعرب بشكل متزايد عن مشاركتها القلق والخوف على وحدة الأراضي السورية ومخاطر ذلك على الأمن والسلم الإقليمي والدولي وذلك من خلال تضمين هذا المبدأ في كل البيانات التي تصدر عن مختلف اللقاءات والمؤتمرات التي تتكلم حول الشأن السوري. وهنا يتفق الجميع مع المدونة بأن وحدة الأراضي السورية هي المبدأ الحاسم لبناء سوريا المستقبل بمشروعها الوطني الجديد.

 

المبدأ الثاني: المكاشفة والاعتراف:

 

تشكل الحالة السورية حالة متفردة لها خصوصيتها بين الأزمات والحروب الداخلية التي شهدها العالم بعد الحرب العالمية الثانية مثل جنوب إفريقيا والجزائر وغيرها، فهي تداخل من حروب إقليمية وأهلية وحروب إرهاب. وهذه الازمة المعقدة تحتاج بالتالي حلول ومعالجات استثنائية يمكن الاستفادة فيها من تجارب الشعوب الأخرى، على أن تستكمل بآليات مبتكرة بما يتناسب وخصوصية الأزمة السورية.

إن الانتقال إلى مرحلة مختلفة وإلى مجتمع ما بعد الصراع بكل أفاقه الإنسانية الرحبة وصياغة مستقبل أفضل يتطلب تعميم ثقافة الاعتراف والمكاشفة، وهي آلية تتناسب والواقع السوري. كما يجب عدم التهرب من المسؤوليات وتفكيك كل عوامل وأسباب الانفجار والنزاعات لضمان الوصول إلى حالة من السلم والأمن المستدام. وقد تكون تجربة جنوب إفريقيا بلجنة الحقيقة والمصالحة، التي لعبت دوراً كبيراً في تجاوز ماضي الفصل العنصري البغيض وكانت برئاسة الشخصية المعتدلة القس ديزموند توتو، مفيدة ويمكن استلهام بعض ما قامت بعمله للاستفادة منه في موضع ما في الأزمة السورية.

 

إن ثقافة الاعتراف بالأخطاء المتبادلة وبشجاعة هو الطريق الصحيح الذي يوصل إلى التسامح والمصالحة، لأن اخفاء الحقائق لا يلغيها وإنكار المرض لا يعالجه بل يساهم في استفحاله، وهذا ما يمكن قراءته من خلال مبدأ الاعتراف والمكاشفة.

 

المبدأ الثالث: لا غالب ولا مغلوب:

 

إنها القاعدة الذهبية التي حكمت نهايات أكثرية الصراعات والحروب التي أخذت طابعاً داخلياً. إذ أنها كانت الوصفة الناجحة إلى حد كبير التي سمحت بتجاوز ماضي أليم والانطلاق إلى المستقبل في كثير من الدول. فغلبة أي طرف في صراع داخلي نتيجة ظروف معينة قد تكون توفر داعم حليف أو داعم خارجي تعني ببساطة أن الصراع سيبقى مفتوحاً وسيبقى جمر الحرب كامناً تحت رماد التسويات المفروضة على طرف مهزوم. فهذا الأخير سينتظر بالتأكيد تغير الظروف ليبدأ جولة جديدة من الصراع.

 

وفي الحالة السورية كان هناك بداية تمترس وراء شعارات متطرفة مثل إسقاط النظام والحسم العسكري وغيرها، والتي أثبتت الأيام انه لا يمكن تحقيقها لأن الصراع محكوم بسقف من التوازنات الداخلية والإقليمية والدولية، وأن التمسك بها لا يعني إلا صراعا مفتوحا يهدد بقاء سوريا ووحدتها الجغرافية والسياسية. لقد أثبتت تطورات الأحداث صوابية قاعدة لاغالب ولا مغلوب التي صاغتها المدونة كمبدأ من مبادئها بعد أن أعلن الجميع بشكل أو بآخر التحاقه بقافلة الحل السياسي وأصبحت كل القوى الفاعلة تعترف بأنه لا حل في سوريا الا سياسياً، ما يعني بوضوح أنه لن يكون هناك غالب ولا مغلوب.

 

لذلك تتعلق أهمية المدونة ككل بعدم نجاح أية محاولة لتشويه أو شيطنة هذا المبدأ من خلال طرح أفكار مغلوطة حول عدم إمكانية التفاهم أو الحوار مع الآخر واعتباره تكفيرياً قادماً من الخارج، وكأن هؤلاء القادمون فعلاً من الخارج جزء من المعادلة الوطنية السورية. بالعكس تماماً من ذلك فإن نجاح الحل على قاعدة لاغالب ولا مغلوب هو الذي سيوحد السوريين لهزيمة هؤلاء القادمين من الخارج وكل القوى المتطرفة ويخرج كل القوى الأجنبية من الأرض السورية. إن معادلة لاغالب ولا مغلوب هي معادلة سورية سورية وهي الوحيدة التي تضمن أن يكون هناك غلبة سياسية في المستقبل لكل الوطنيين السوريين.

 

المبدأ الرابع: لا أحد بريء من الذنب:

 

مما لا شك فيه على مر التاريخ أن من يشارك بالحروب ليسوا ملائكة وقديسين إنهم بشر بكل ما تعتريه النفس البشرية من أخطاء وخطايا وضعف. والحرب السورية ككل النزاعات الداخلية بكل ما نتج عنها من شرور، بل إنها تكاد تكون قد تفوقت على مثيلاتها بالتجاوزات وارتكاب انتهاكات خطيرة ومتواصلة للقانون الدولي والأعراف الإنسانية واتفاقيات جنيف لعام 1949، بما في ذلك الكثير من جرائم الحرب الموثقة. فتقارير المنظمات والهيئات الدولية حول سوريا حافلة بمثل هذه الجرائم بكل ما فيها من فظائع كاستهداف المدنيين واستخدامهم دروع بشرية وقصف المواقع  والأعيان المدنية كالمشافي والمدارس ودور العبادة والجسور وغيرها، والهجمات العشوائية والهجمات غير المبررة بأي شكل من الأشكال، وجرائم الخطف والتعذيب والاغتصاب وتجنيد الأطفال وانتهاك حقوقهم، والحصار والتجويع وقطع المياه وغيرها من الجرائم المروعة التي يمتلئ بها مع الأسف سجل الحرب القذرة في سوريا طوال ما يقرب من عشر سنوات من الصراع الرهيب على مئات الجبهات وألاف المواقع والنقاط.

 

وبالتأكيد فإن توثيق كل هذه الجرائم والانتهاكات يحتاج الى جهود وإمكانيات كبيرة ومتواصلة محلية ودولية وإلى ظروف مناسبة وزمن طويل. والمدونة عندما صاغت بند لا أحد بريء من الذنب لم يكن لتغطية أحد أو لمساعدة أي طرف للإفلات من العقاب، بل لقناعة ويقين بأن الأطراف المشاركة بالصراع قد ارتكبت فظائع وانتهاكات وبدرجات مختلفة، وهذه الأطراف يجب أن تتحمل مسؤولية ما قامت به. وعليه فإن امتلاك الأطراف شجاعة الاعتراف بذلك هو خطوة تعني الاستعداد لتحمل هذه المسؤولية ومحاسبة كل مرتكبي هذه الجرائم وطي هذه الصفحة السوداء المؤلمة. ولن تستقيم الأمور في سوريا إلا إذا تمت هذه المحاسبة وفق أعلى معايير الشفافية والنزاهة ووفق قواعد قانونية وأخلاقية عالمية واضحة ومعترف بها.

 

المبدأ الخامس: محاسبة لا ثأر:

 

إن هول الجرائم المرتكبة من قبل الأطراف المشاركة مباشرة في الصراع على الأرض يجعل من المحاسبة ركناً أساسياً من أركان بناء الدولة السورية من جديد وعلى أسس قوية وراسخة. صحيح أن نهج التسامح في الحالة السورية أكثر من مطلوب، بل هو ضرورة. وكما يقول نلسون مانديلا التسامح الحق لا يستلزم نسيان الماضي بالكامل بل الاستفادة منه. وبالتالي فالتسامح لا يلغي المحاسبة، ولكن المحاسبة يجب أن تكون ضمن الأطر القانونية العادلة بعيداً عن العقلية والممارسات الثأرية. لذلك يجب أن تكون المحاسبة شخصية لمرتكب هذه الجرائم والانتهاكات، ولا يجوز أن يتحمل انسان عواقب ممارسات إخوته أو عائلته أو عشيرته أو قريته ووزر ممارسات ارتكبها شخص او بضعة اشخاص. وهذه القاعدة مهمة جداً في الحالة السورية نتيجة تعددية المجتمع السوري وما يمكن أن يتركه تعميم تحميل المسؤوليات وجماعية المحاسبة من كوارث ستضرب صميم الوحدة الوطنية السورية. ومن هنا نفهم صوابية وضرورة المبدأ الخامس من مبادئ المدونة محاسبة لا ثأر.

يتبع بقية المبادئ في مقالة قادمة

أ. سلمان شبيب رئيس الهيئة التأسيسية لحزب سوريا أولاً ©

2021.06.1717.06.2021