أكثر ما يسمعه المرء في هذه الأيام عندما يستطلع ما يجري حول الملف السوري يتمحور حول مؤتمرات السوريين خارج سوريا، التي عقدت أو قيد الانعقاد أو يجري التحضير لها. على أن ما يلفت النظر في هذا الإطار ليست واقعة تجمع السوريين وحوارهم، وإنما العناوين العريضة والمسميات التي يختارها القائمون على هذه اللقاءات للقاءاتهم. وهذا يعكس رغبة عارمة عند الجميع تتلخص بالحنين لأن يجلس أكبر عدد من السوريين مع بعضهم في مؤتمر وطني شامل يناقش الحالة السورية، ويحاول وضع أطر معينة لحلول لها مقبولية لدى الجميع أينما كانوا.

 

لا مجال للشك بأن هذه الرغبة ليست فقط مبررة ومشروعة، وإنما قد تكون ضرورة لا بد منها على طريق أي حل ممكن للأزمة السورية. إلا أن أي مؤتمر سوري مرجو يجب أن يتبلور كنتيجة لعملية حوار وطني شاملة، يشارك فيها سوريو الداخل والخارج بكامل أطيافهم الاجتماعية ومذاهبهم وانتمائاتهم الإثنية واتجاهاتهم السياسية. وهنا تكمن إحدى أهم المعضلات التي ترافق الأزمة السورية منذ بدايتها. هذه المعضلة تؤثر بشكل مباشر على أية محاولة إجراء حوار شامل بين السوريين، وتتلخص في جانبين:

 

  • الجانب الأول: الحساسية الخاصة الموجودة عند السوريين من جميع الأطراف بخصوص الحوارات التي يكون الحضور فيها قائما بشكل أو بآخر على تمثيل المجتمع السوري بتنوعاته الإثنية، الدينية والمذهبية. هذه الحساسية هي أمر موجود سواء كان تنوعات المجتمع السوري تشكل جزءا من حيثيات الحوار القائم، عندما يتم على سبيل المثال دعوة ممثلي بعض الإثنيات والأديان والطوائف للقاء قوى سياسية أو اجتماعية معينة. أو عندما تكون تلك التنوعات هي أساس الحوار من خلال عقد مؤتمر مثلاً بين ممثلي الاتجاهات المختلفة في المجتمع السورية، وبناء على صفتهم بالانتماء لهذا الاتجاه أو ذاك. أو حتى عندما لا يرتبط وجود التنوع بالتمثيل بأي قصد عام أو خاص، وإنما فقط بعفوية الاختيار وتجنب اللون الاجتماعي الواحد للقاء.

 

  • الجانب الثاني: الحساسية السياسية الموجودة لدى فرقاء النزاع ومن هم قريبون منهم في المواقف أو من يعرفون مواقفهم على أنها موازية لهذا الطرف أو ذاك، والمرتبطة بفكرة أن الآخر قد فقد شرعيته السياسية. فالسوريون الذين ينظرون إلى أنفسهم بأنهم يقفوا إلى جانب الدولة أو الحكومة السورية – أو ما يطلق عليه اسم النظام السوري – يرون السوريين المختلفين معهم في الرأي على أنهم حلفاء الإرهاب والجماعات الإسلامية والمصالح الخاصة لبعض دول المنطقة في سوريا. وعلى الطرف الآخر يصف السوريون أصحاب المواقف القريبة من المعارضة بأن ما يسمى بالنظام السوري وكل من يقف معه أو يقترب من مواقفه بصفات مختلفة منها الإجرام أو التستر على الإجرام أو العمالة لإيران.

 

تأثير هذين الجانبين على عملية الحوار يظهر في التوصيفات التي تطلق على حوارات السوريين من قِبل السوريين الآخرين وخصوصاً في العالم الافتراضي، والتي تتراوح في مجملها بين التكفير والتخوين بشكل أو بآخر. على جانب آخر فإنه من المهم هنا التنويه بأن طريقة التفكير هذه تتجاوز التوصيف المجرد وتؤثر بشكل مباشر على سير أية عملية حوار. وهذا يظهر بشكل واضح من خلال أن الكثير من عمليات الحوار الحالية بين السوريين لم تستطع تجاوز مرحلة تبادل الاتهامات أو توصيف ما حدث في سورية بعد 2011 أو الحديث عما يسمى مرحلة انتقالية في الوقت الذي لا يستطيع فيه أحد أن يعرف الإحداثيات القائمة على الواقع الموجود لأية عملية انتقال مزعومة. حتى الحوار داخل أروقة اللجنة الدستورية لم يخرج عن هذا الإطار حتى الآن.

 

على أن حوار السوريين بعد مرور أكثر من عشر سنوات على الأزمة – مع الأخذ بعين الاعتبار أن استخدام لفظة الأزمة بحد ذاته لتوصيف الحالة السورية هو مسألة إشكالية بين السوريين – وبناء على الظروف الحالية يجب أن يقوم على ثلاثة مبادئ أساسية:

 

  1. الرؤية المستقبلية: أي أن الحوار يجب ألا يناقش الماضي ويتغول في أسباب النزاع، وإنما يجب أن يتم تناول المستقبل بكامل أبعاده. يمكن على سبيل المثال طرح سؤال حول سوريا في عام 2050، ما هو شكلها؟ وكيف سيكون نظام الحكم؟ وما هي المعايير الاقتصادية والاجتماعية ممكنة التطبيق للحياة في هذا البلد؟

 

  1. برغماتية المواقف والنتائج: إن الحوار يجب أن يقوم على مفهوم العملية المفتوحة دون استخدام مفهوم الشرطية بخصوص ما سيتوصل إليه المرء من نتائج. ما تنضوي أيضا تحت هذا المبدأ هي مسألة واقعية وعقلانية النتائج. إذ لا يمكن أن يكون أساس الدخول في عملية الحوار هو الوصول إلى نتائج يعرف المرء مسبقا عدم إمكانية الوصول إليها لبعدها عن الواقع وعدم انسجامها مع الظروف الحالية المحيطة بالحالة السورية.

 

  1. صراحة تناول المواضيع المختلفة: يتمثل أهم عوامل نجاح الحوار في وضع كل المسائل على طاولة الحوار وتناولها بصراحة دون أي هاجس بسبب من يجلس على طاولة الحوار، أو من هو خارجها من الجمهور المتلقي.

 

مع الإقرار بأن الانطلاق بعملية حوار وطني سوري شامل تحمل هذه الخصائص هو مسألة صعبة التحقيق في الظروف الحالية، وخصوصاً أن هناك أسئلة حساسة مثلاً حول من يتحاور مع من؟ وأين سيتم الحوار؟ قد لا تجد في الوقت الحالي إجابة مرضية لمن لديهم رغبة في الحوار. على أن الحوار يبقى هو الطريق الوحيد لحل الأزمة السورية بعد فشل كل الحلول الأخرى، مع الاعتراف بأن الحوار في الحالة السورية ليس مجرد عملية تؤدي إلى نتائج، بل هو هدف في حد ذاته. فالجلوس على طاولة الحوار يحول التراشق بالرصاص والقذائف إلى تراشق بالكلمات، ليس فقط بين المتحاورين وإنما بين جمهورهم أيضاً. مع الوقت لا يبقى التراشق تراشق كلمات فقط، بل يتحول إلى تراشق حجج. تبادل الكلمة والحجة يؤدي في النهاية إلى نشوء طبقة من المتحاورين تقترب شيئاً فشيئاً من بعضها البعض، وتنشأ بينها جسور مبنية على العلاقات الشخصية التي قد تؤدي في النهاية إلى الوصول إلى نتائج مشتركة تتقبلها مجتمعاتهم من السوريين على اختلاف انتماءاتهم وأماكن تواجدهم الجغرافي.

د. ناصيف نعيم ©

2021.09.2020.09.2021