في العصور القديمة كانت توجد مسارح للمصارعة والقتال حتى الموت. حيث كان يسارع الجمهور لحضور تلك العروض ويحرض أحد المصارِعَين على قتل الآخر، بل لا تكون العروض حماسية إذا لم تكن الدماء تسيل.

في زمننا هذا، وعندما نقرأ في كتب التاريخ عن هذه العروض، أو حتى نشاهد فيلماً يعرض هكذا مشاهد، نستاء كثيراً ونقول: كم كانت هذه الشعوب متخلفة وهمجية ووحشية. ما يحدث في سورية اليوم يشبه ما حدث في تلك المسارح من همجية ووحشية، بل قد يفوقها بكثير. إذ أصبح السوري يفرح لمقتل سوري آخر، لمجرد أن يكون مختلفا عنه، بالدين، بالمذهب أو بالانتماء السياسي أو المناطقي، أو حتى بالرأي.

كيف نسير نحو سورية الجديدة؟

لم يذكر التاريخ أن حرباً أهلية أو داخلية – حتى نتجنب هنا النقاش حول ماهية الحرب في سوريا - انتهت بزوال أحد الفريقين المتحاربين من الوجود. فتلك الحروب كلها تقريبا كانت تنتهي على طاولة حوار تجمع الفرقاء، وتصل بهم إلى تسويات أو تفرض شروط من أحد الطرفين. ولكن في الحالة السورية، من هم المتحاربون؟ وما هي التسويات والشروط؟

بداية فإنه يجب التنويه على أن المتحاربين هم السوريون ذاتهم. هؤلاء اختلفوا في التسمية، إذ أنه - وبعيداً عن سجال بدايات الحرب - ثمة من يقول انها ثورة ضد النظام والديكتاتورية والظلم والطغيان، بينما فريق آخر يسميها المؤامرة من قِوى خارجية عبر أيادٍ داخلية، والبعض الآخر يسميها انتفاضة شعبية، وٱخرون حراكاً. إلا أن المسميات كلها  لم تعد تعني شيئاً اليوم. فالمصطلح الحقيقي الذي وصلت اليه سورية اليوم هو مصطلح الكارثة، إضافة إلى تواجد أربعة جيوش أجنبية على الأرض السورية، وهي أمريكا وروسيا وتركيا وايران، إضافة إلى اسرائيل التي تقصف من الجو. فعن أي ثورة يمكننا أن نتحدث! و أية مؤامرة يمكنها أن تقنعنا في ظل بلد تناهشته دول العالم ومخابراتها!

من ليس معنا فهو ضدنا. هكذا أصبح حال المواطن السوري، بينما كل فريق ينظر للدول الأجنبية الموجودة على الأرض السورية بأنها دول حليفة، متناسين بأن الدول ليست جمعيات خيرية. إذ أن تلك الدول لم تتدخل بالملف السوري لمصلحة السوريين، بل كل دولة دخلت تنفيذاً لمصالحها الخاصة، وساهمت بجعل سوريا ساحة صراع لها مع الآخرين، مما جعل سوريا تتحولت بالتالي من لاعب إقليمي، الى ملعب للجميع.

أما حال أبنائها اليوم، فهم مشتتون بين ملايين مهجرين في الخارج كلاجئين، وملايين مهجرين في الداخل كنازحين، والباقي منهم يقتلهم الفقر في ظل انهيار اقتصادي تتسارع وتيرته كل يوم، وينذر بفقدان متطلبات الحياة اليومية والأساسية كحدٍّ أدنى للبقاء.

بعد أعوامٍ عِدّة من الدمار والقتل والتهجير والتكفير والتخوين، وبعد أن عبث الغرباء بهذا البلد، وانقسم الناس فيما بينهم، وتعمق الشرخ الاجتماعي والمذهبي وأيضا الطبقي تبعاً للاستقطاب السياسي الذي غذى الصراع السوري - السوري خلال العقد الأخير، نرى بأن المشاهد  في حيثياتها لا تنفصل عن بعضها البعض. فالمؤشرات السلبية والدلائل تنبئ بكارثة انسانية لم يشهد التاريخ الحديث مثلها، سواء في الشتات السوري تبعاً للظروف الإنسانية السيئة في المخيمات في دول اللجوء، أو بناءاً على الوضع المأساوي لمن بقي في الداخل السوري بين فكي الموت جوعاً، أو الاستبداد القهري، منتظرين حلاً سياسياً من الدول صاحبة القرار. ولكن لا حل في المنظور القريب.

وهنا لابد من السؤال: ما الذي جناه السوريون خلال عشرة أعوام من عمر الكارثة السورية، من الذي انتصر، ومن المهزوم؟

وبإجابة بسيطة لا أحد، فقط هو السوري الذي يخسر. إذ أن السوريون خسروا وطناً بات الأغراب يتنازعونه ويتقاسمون ثرواته. وهذا ما يعني بأن الحديث سيبقى عن طول الأزمة، واستمرار الكارثة. والأشدّ خطورة من كل ذلك يبقى الحديث عن مشاريع التقسيم في المنطقة، التي لم يعد الحديث عنها يجري تحت الطاولة فالمؤتمرات الطائفية تجري هنا وهناك لبحث مصير تلك الطوائف والقوميات، تمهيداً لإطلاق الدويلات الدينية أو القومية في خطوة لاحقة.

والأشدّ خطورة هو حال السوريين الذين لم يعد يعنيهم ما يُرسَم لهم، فمطالبهم اليوم تنحصر بمحاربة الجوع، أو الهروب منه إلى أي مكان في العالم، وكأنهم أصبحوا جاهزين لأي مشروع يُفرَض عليهم.

فهل حان الوقت إذاً لعقد سوري جديد؟

هل بات لزاماً علينا واجب النهوض والصحوة، وكتابة عقد اجتماعي جديد، يكون فيه العمل السياسي مبنياً على المصلحة المشتركة لجميع السوريين؟ عقدٌ يعيد لهم أَلَقهم وفاعليتهم كسوريين حقيقيين كما عرفهم التاريخ، ويعترف بحقوق الجميع دون استثناء. فسورية بلد متنوع، والتراث السوري يشمل كافة الحضارات التي عاشت وتعاقبت ولا زالت تعيش على الأرض السورية، والحفاظ على إرث وجوهر ومظاهر كل هذه الحضارات بتعدديتها يُشكل واجباً يرتبط بصميم الهوية السورية. أما المساواة بين السوريين في الذات الإنسانية والكيان البشري والمراكز الحقوقية وضمان حرياتهم في المجالات كافة، فهي مسألة غير قابلة للمساومة. والتأكيد على مبدأ المواطنة، وبأن الجميع متساوون أمام القانون، ولهم جميعاً ذات الحقوق، وعليهم ذات الواجبات، مسألة تتعلق بصميم الدولة السورية المرجوة.

تلك مؤشرات يجب أن ننتبه لها كسوريين، لتكون مرجعاً وأساساً يُبنى عليه، وناظماً لأي مشروع سياسي يهدف إلى إنقاذ البلد. فعلينا كسوريين أن نبحث عن طريقة للعيش معاً، كما كنا في التاريخ السوري الأعمق والأقدم من جميع الأنظمة والحكّام. فسورية اليوم هي أحوج ما تكون إلى  خطاب عقلاني يردم الهوة التي خلقتها الحرب بين مكوناته، خطاب مدني علماني، يؤكد على الثوابت الوطنية السورية، تكون المواطنة فيه من حق كل السوريين. وهذا ليس بمستحيل.

أسامة أبوديكار ©

2021.11.3030.11.2021