الشرق الأوسط تعريفا هو مصطلح جيوسياسي يشمل منطقة بلاد الشام والجزيرة العربية والأناضول. وتمتد تلك المنطقة من الخليج العربي حتى البحر الأبيض المتوسط، إذ تعتبر الدول التي تقع ما بين هاتين البقعتين المائيتين من حيث المبدأ هي ما يسمى بالشرق الأوسط. على أن المصطلح هو مصطلح خلافي لجهة تلك الدول من حيث توصيفها تحت هذا المسمى، فهناك من يضم له إيران وشمالها - بدون دول القوقاز - حتى العراق، وجنوباً منطقة شبه الجزيرة العربية بالكامل مع بلاد الشام الطبيعية، إضافة طبعاً إلى الأناضول شمالاً ومصر في الجنوب الغربي مع قبرص. بينما يتداول آخرون المصطلح بمعنى الشرق الأوسط الكبير والذي يضم معه أجزاء من شرق إفريقيا وأفغانستان وباكستان حتى حدود أسيا الوسطى جنوب جبال القوقاز. لكن حسب التعريف الأكثر تداولاً فإن الشرق الأوسط كمصطلح يشمل الجزيرة العربية والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين فقط.
وهذا عملياً هو الشرق الأوسط الصغير الذي يعتبر الأهم عالمياً، وهو بؤرة الصراع العالمي للسيطرة على جغرافيته ومقدراته، وخصوصاً جزيرته العربية التي تتميز بغناها بمصادر الطاقة من البترول والغاز. وهذا الصراع قد برز في العصر الحديث، كما في القديم بين أقطاب العالم للسيطرة على هذه المنطقة، وأبرز هذه الأقطاب هي الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي سابقا، وروسيا الاتحادية حالياً. وقد تأجج هذا الصراع في فترة ما يسمى بالربيع العربي وقيام الثورات في منطقة الشرق الأوسط منذ تاريخ سقوط بغداد وحتى هذه اللحظة. لكن ما يعنينا الآن هو الصراع الغربي الروسي في حالة النزاع السوري، والذي امتد حتى الآن أكثر من عقد ونيف.
على أن هذا الصراع الجيوبوليتيكي الخاص بسوريا لم يبقى بين هذين المعسكرين، إذ أن قوى إقليمية فاعلة في المنطقة وخارجها دخلت في الصراع بشكل أو بآخر. على سبيل المثال فقد غاصت إيران في المستنقع السوري، والصين قد احتلت مكان ما سياسيا في التأثير على النزاع دون التدخل في مجريات الصراع، وتركيا قد أمعنت في تدخلها بشتى الوسائل. كل هذه القوى مجتمعة عملت منذ بداية الصراع السوري - ولا تزال تعمل - للسيطرة على بوابة الشرق الأوسط، وهي سوريا بموقعها الأهم جغرافيا وسياسيا.
بغض النظر عن ذلك، فإن التنافس بين الغرب ممثلاُ بأمريكا والروس يبقى الأبرز جيوبوليتيكياً على الساحة السورية. فقد بات واضحاً للعيان بأن الأساس في هذا التنافس هو مسألة السيطرة على المجالات الحيوية السورية البرية والبحرية والجوية، وحتى الهوية والمجال الاقتصادي، كمدخل للسيطرة على منطقة الشرق الأوسط ككل. على أن سوريا لا تعتبر بداية لهذا الصراع، بل سبقتها أحداث الحادي عشر من أيلول التي هيأت المنطقة لمثل هذا الصراع الطويل الأمد، والذي كرس نهاية الحرب الباردة بسقوط الاتحاد السوفيتي وهيمنة ما يسمى القطب الأوحد. ولاحقا لأحداث الحادي عشر من أيلول أتى احتلال أفغانستان وسقوط بغداد والتطورات التي تلت الربيع العربي لتشعل فتيل المواجهة من جديد وتدخل القوى الإقليمية في المنطقة ضمن هذا الصراع وما أفرزه من تغيرات أهمها المتغيرات الاقتصادية العالمية وطرح نظام موجه بديل للمنافسة الايديولوجية الكلاسيكية في العالم. كما تم طرح مفاهيم جديدة بهدف التخفيف من موجة العولمة التي أنهت مصطلح الجغرافيا والحدود بين الدول، حيث لم تعد الجغرافيا عاملا محوريا في الحسابات الجيوستراتيجية للدول حيال القضايا الدولية التي يمكن أن تنشب في العالم.
بشكل عام، فإن العولمة همشت الجيوبولتيك التقليدي الذي يعتمد على الصراع بين الأطراف المتحاربة برا وبحرا وجوا. ففي ظل التكنولوجيا العسكرية الجديدة والعابرة للمحيطات كالأسلحة النووية وسلاح الصواريخ والطائرات المسيرة والحروب الإلكترونية ... إلخ، أصبحت النزاعات العسكرية أكثر تعقيداً وأكثر تعدداً للبنى. وهناك من يقول أن العولمة والجيوبولتيك هما وجهان لعملة واحدة، حيث يتم من خلالهما السيطرة على كل مجالات الحياة للبلدان التي ستقع فريسة صراع العروش والأقوياء. والنظرة الجيوبوليايكية التي يمكن أن تُختصر في التنافس الغربي الروسي فيما يخص منطقة الشرق الأوسط - وتحديدا سوريا - ببعديه التقليدي والمعاصر، تعتبر هذه المنطقة الأكثر استقطابا وتنافسا بين القوى الكبرى والقوى الإقليمية الصاعدة في العالم، وذلك لتوسطها القارات الثلاث ولإشرافها على أكبر مجموعة مائية من البحار وأهم مواقع المرور البحرية في العالم. كما أنها أيضا غنية بالنفط والغاز الذين يعتبران العصب الأساسي للتطور الاقتصادي العالمي.
في مضمار هذا التنافس الغربي الروسي كان السبق للولايات المتحدة، والتي أعلنت بعد أحداث الحادي عشر من أيلول حربها على الإرهاب، ومن ثم احتلت العراق وأسقطت نظام صدام حسين، ما أدى إلى زعزعة بنية النظام الإقليمي العربي وتموضع الجيش الأمريكي في قلب الشرق الأوسط عن طريق إقامة القواعد العسكرية. وقد تبع هذا تدخلات مباشرة وغير مباشرة في المنطقة ككل. وبالنسبة لسورية فقد باتت الولايات المتحدة وقتها على مشارف سوريا، واعتبرت أن تدخلها في الحالة السورية - إذا حصل - هدفه الحفاظ على أمنها القومي وحماية مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية في المنطقة، وأهمها توفير مصادر الطاقة الرخيصة تأمين طرق نقلها.
ومع الربيع العربي وتكريس حالة التفرقة والتشرذم على الإقليم العربي، وفرض صراعات على أساس الهوية والعرق والدين، ما أدى إلى خلق إمارات ودويلات متأخرة ومتناحرة وزاد من هشاشة النظام العربي ككل، تم فرض الهيمنة الأمريكية بشكل أكبر، ما جعل بداية مجالات الروس والصينيين وتأثيرهم في منطقة الشرق الأوسط مسألة ضعيفة. فما يهم الولايات المتحدة من خلال تدخلها في منطقة الشرق الأوسط عموماً وسوريا خصوصاً - طبعاً قبل التدخل الروسي العسكري في سوريا - هو عدم السماح للروس بتحقيق أهدافهم الجيوبولوتيكية، وعزلهم عن الوصول إلى المياه الدافئة. كذلك فإن الأمريكان يسعون إلى عدم إعطاء إيران أية إمكانية للاستفادة الاقتصادية من خطوط نقل الغاز إلى أوربا عن طريق الساحل السوري. وهذا هو البعد الاقتصادي الأهم للجيوبولتيك الأمريكية المعاصرة، فوجودها في شرق سوريا إلى أجل غير مسمى سيمنع إقامة الممر الذي سيربط إيران بسوريا أو مع لبنان.
أما من الناحية السياسية الخاصة بسوريا فإن تدخل الولايات المتحدة هدفه إنهاء النزاع السوري ووقف كل أشكال القتال، والاطاحة بالنظام السوري الذي تحمله الولايات المتحدة مسؤولية النزاع المسلح. ولكنها في الفترة الأخيرة صرحت في غير مناسبة أنه يمكن للنظام السوري الحالي أن يلعب دورا انتقاليا على المدى البعيد لتحقيق الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط. وفي جانب آخر نراها تلعب دورا مغايرا في هذا الصراع من خلال تجنيد وتنظيم ودعم ألاف المقاتلين من الأكراد والقبائل العربية في منطقة شرق الفرات، وتضعها تحت إمرة قواتها البرية المتواجدة في تلك البقعة، حتى بعد اعلان الرئيس ترامب نيته في الانسحاب الكامل من سوريا في أواخر فترة حكمه، هذا الانسحاب الذي لم يحدث حتى اليوم.
إذاً، فالاستراتيجية الأمريكية في سوريا وحضورها الجيوبوليتيكي الأبرز تقوم بشكل رئيسي على صد إيران والروس الداعمين الأساسيين للنظام السوري في محاولتهما لإعادة تشكيل سوريا جديدة جغرافيا وسياسيا، وإعادة إحياء مشروع الهلال الخصيب كمشروع شرق أوسطي فاعل وقوة اقليمية مؤثرة في منطقة الشرق الأوسط. ومن هنا وبالتوازي مع وضع الولايات المتحدة، فإذا ما نظرنا إلى ماهية الصراع الجيوبوليتيكي من وجهة النظر الأوراسية الروسية، فإن ما لا شك فيه أن الروس لديهم نظرة استراتيجية مخالفة تماماً لنظرة الولايات المتحدة في سوريا ومنطقة الشرق الأوسط عموما. إذ أنه في ظل التغيرات الدولية العميقة والمشاكل الاقتصادية العالمية العالقة بين القوى الكبرى الفاعلة في العالم، تذهب روسيا الى تحقيق أهدافها الداخلية عبر سياستها الخارجية من خلال الضغط العسكري والتهويل بقوتها العسكرية وإيجاد نفوذ حيوي لها في مناطق المياه الدافئة. ولعل أهم مناطق النفوذ هي البوابة السورية على ساحل الأبيض المتوسط، حيث قام الروس بتشكيل قاعدتهم البحرية العسكرية على شاطئ مدينة طرطوس، ودعمها بقاعدة عسكرية جوية في مطار حميميم في اللاذقية، ما أعطى الروس تفوقا على حالة التواجد الأمريكي في شرق الفرات، فالروس يبحثون مثل نظرائهم الأمريكان عن أمنهم الاستراتيجي في مقابل حلف الناتو ومنظومة الدرع الصاروخي الأميركي في أوروبا.
من هنا، فإن المخرج الأمني الأساسي للروس هو صد أي مشروع دولي في توجيه ضربة عسكرية تطيح بالنظام السوري، ما يعتبر انتصارا للدبلوماسية الروسية على نظيرتها الأمريكية، والتي استطاعت أيضاً الحصول على تنازلات من الولايات المتحدة حول كيفية تسوية النزاع السوري. وبذلك فرضت روسيا نفسها في منطقة الشرق الأوسط انطلاقا من مصالحها الاستراتيجية وتدخلها العسكري في سوريا عام 2015، والذي في جزء من قام على خلفية النزاع الجيوبوليتيكي بين منظومتي الشرق والغرب. إذاً لقد اعتبرت روسيا منطقة الشرق الأوسط وخصوصا سوريا هي الحديقة الخلفية لها، والتي لا مجال لأي تنازل عنها مهما تطور وتغيرت طبيعة الصراع القائم. ومن جهتها فقد هيئت الحالة السورية الأساس لعودة روسيا إلى الساحة الدولية. كما أن التعافي الاقتصادي الروسي القائم على مبيعات النفط والغاز ساهم أيضا في هذه العودة، بما تسعى له من وجهة نظرها لتأسيس عالم متعدد الاقطاب للحد من قطبية الولايات المتحدة الأحادية وهيمنتها على مجريات الأحداث الدولية ككل.
عليه فالجيوبوليتيكيا الروسية حيال النزاع السوري تنطلق بشكل أساسي من المشروع الأوراسي الذي شكلته روسيا، إضافة إلى حاجتها لحلفاء جدد كإيران والصين والمملكة السعودية وقلقها من الصعود التركي في المنطقة، وسعيها إلى سد أي طريق لتدفق الغاز الخليجي من البوابة السورية الى القارة الأوربية لأن هذا سيشكل الخطر الأكبر على الاقتصاد الروسي الذي يعتمد اعتمادا اساسيا على التمويل من خلال ضخ الغاز الروسي في أنابيب إلى أوربا. على جانب آخر يمكن لروسيا بهذا الشكل الحفاظ على ورقة الطاقة كورقة ضغط سياسية على الاوربيين. وهذا ما ظهرت آثاره بشكل واضح على بعد بداية الحرب الروسية على اوكرانية، تلك الحرب التي أتت لتكرس الخصوصية الجيوبولوتيكية الروسية الهادفة للسيطرة على مياه بحر البلطيق وبحر الشمال والبحر الاسود باتجاه طبعا البحر الأبيض المتوسط، كحلم ازلي قائم منذ عقود بعيدة.
ومما زاد في أهمية التدخل الروسي في المسألة السورية بهدف حماية أمنها القومي هي ضرورة القضاء على الحركات الإسلامية الراديكالية التي لابد أن تصل يوما ما إلى دول اسيا الوسطى، والتي تمثل الخاصرة الرخوة لروسيا، ما يمثل تهديدا أمنيا كبيرا لها. إضافة إلى ذلك فقد أدى التدخل العسكري الروسي في سوريا إلى توسيع سوق السلاح الروسي، حيث استطاعت روسيا من خلال تجربة واستخدام الكثير من الأسلحة كسب زبائن جديدة لأسلحتها حول العالم، ناهيك عن صفقات الأسلحة التي لا تحصى مع النظام السوري. وهنا يظهر جلياً بأن روسيا قد عملت من خلال دعم النظام السوري والحفاظ على بقائه على تقوية نفوذها الجيوستراتيجي. إذ حتى لو كان النظام السوري ضعيفا، ولكنه يدعم عودتها إلى الساحة الدولية ومواجهة الولايات المتحدة بعد سيطرة الأخيرة على أفغانستان والعراق، والذي كان له تداعيات سياسية وأمنية خطيرة على المنطقة.
ختاماً، من الواضح بأن السياسية الروسية الجيوبوليتيكية تجاه النزاع السوري ترتكز على الحماية الدولية للنظام السوري من القرارات الاممية الهادفة للتدخل في سوريا، والتدخل العسكري المباشر في النزاع السوري، وانتهاز فرصة لإقامة اتفاقية عسكرية بالحصول على قاعدة جوية في مطار حميميم والحصول على مرفأ حربي على البحر المتوسط في طرطوس. إضافة إلى ذلك فإن الأهمية الجيوبولتيكية الخاصة للشرق الأوسط، التي كانت وما تزال منذ عقود الحرب العالمية الأولى والثانية، هي مسألة أصبحت لها أبعادها في السياسية الروسية على الرغم من المتغيرات على الساحة الدولية. أي ببساطة، واستناداً إلى البعد الأمريكي في الشرق الأوسط، فإن النزاع السوري وخصوصيته الجيوبولتيك قد أعاد إحياء الصراع الثنائي الأزلي لفترة الحرب الباردة قبل الحر الروسية على أوكرانيا. والتأثير الواضح لذلك يتمثل في إعادة رسم خريطة التحالفات الدولية بين تلك القوتين والقوى الإقليمية الصاعدة في الشرق الأوسط والعالم. وهذا بدوره عقد النزاع السوري المتعدد الأطراف أصلاً، وفتح المجال لاستمرار الساحة السورية كصندوق بريد لرسائل الترغيب والترهيب بين تلك القوى.